ماريو بارغاس يوسا، روائي من البيرو حائز على جائزة نوبل للآداب عام 2010، أحد أبرز الروائيين الذين كرّسوا أعمالهم للبحث في قضايا الحرية والهوية في أمريكا اللاتينية. وذلك من خلال أعماله الروائية المتنوعة الموضوعات، إذ يقدم يوسا تحليلاً عميقاً وموسعاً للواقع الاجتماعي والسياسي في بيرو وبلدان أمريكا اللاتينية، ويشدد على التركيز في معاناة أو صراعات الفرد والمجتمعات التي تُشكّل هوية الإنسان في عالم مليء بالتحديات.
الحرية في أدب يوسا
في رواية "بانتاليون والزائرات"، يقدم يوسا نقداً لاذعاً للمؤسسة العسكرية والبيروقراطية في بيرو. وذلك من خلال الشخصية الرئيسية في الرواية (بانتاليون)، الضابط الذي طُلب منه القيام بمهمة إنشاء مؤسسة دعارة للجنود! ويكشف يوسا عن طريق هذه الشخصية عن التناقضات الأخلاقية والسياسية في المجتمع. كما يطرح في هذه الرواية أسئلة مهمة عن الهوية والانتماء، وكيف يمكن للفرد أن يتمسك بإنسانيته ويحافظ عليها في ظل وجود نظام قمعي.
أما في روايته "من قتل بالومينو موليرو؟" فيقدم يوسا رواية بوليسية متكاملة، ولكنها تكشف عن الفساد الطاغي في مجتمع البيرو، وذلك من خلال التحقيق في جريمة قتل شاب يدعى (بالومينو موليرو)، وهو شاب بسيط يعيش حالة حب مستحيل، ولكنه ينتهي بطريقة وحشية. وكالعادة، فإن الحقيقة أبشع بكثير مما نتصور. إذ كلما تعمق المحققون في بحثهم عن أدلة الجريمة، ازدادت التعقيدات. وبهذا يكشف يوسا عن استخدام السلطة والمناصب لقمع أفراد المجتمع وترويعهم وإخفاء أدلة الجرائم. وأكثر ما يميز الرواية هو أنها تطرح أسئلة عديدة حول العدالة، وكيف يُسحق الأشخاص العاديون تحت عجلة السلطة والأنظمة الفاسدة.
الهوية والبحث عن الذات
وفي رائعته الأهم "شيطنات الطفلة الخبيثة"، يتناول يوسا شخصيات أبطاله عبر صراعاتهم في البحث عن الذات. وهذا الصراع يتمثل بوضوح في محاولات شخصية "الطفلة الخبيثة"، وهي امرأة تتنقل بين الرجال والبلدان، من تشيلي إلى فرنسا وإنجلترا وإسبانيا واليابان! إن هذه الطفلة الخبيثة ترفض أن تُمتلك طوال الرواية، لكنها في النهاية لا تمتلك حتى نفسها ولا تعرف شيئاً عن ذاتها، ولا تعترف بالاستقرار، ولا تؤمن بالمشاعر الحقيقية.
وهذه الطفلة الخبيثة تظهر في البداية كشخصية طموحة، مليئة بالرغبة في التفوق، ولكنها لا تلبث أن تتصادم مع واقع معقد وخطير، إذ لا تعرف الاطمئنان في أي مكان. وهي لا تمثل صراع شخصية المرأة التي تبحث عن الحرية في المجتمع فقط، بل أيضاً مع المفاهيم الذاتية لأفراد المجتمع حول هذه الحرية. وبذلك نجد حالة من التوتر الدائم في علاقتها وتواصلها مع معظم الشخصيات الأخرى في الرواية. كما يمكننا أن نجد الصراع مع الشخصية الرئيسية (ريكاردو)، وهو الشاب والمترجم الذي يجد نفسه محاصراً بين حبه لشخصية (الطفلة الخبيثة) وسعيه للبحث عن ذاته بل وتحقيق ذاته. فيعاني طوال الرواية من صراع مستمر مع هويته الشخصية ومواجهتها في المجتمع الذي يزيد من تعقيد علاقته مع الطفلة الخبيثة.
وبين صراع كل من الطفلة الخبيثة وريكاردو في بحثهما عن الحرية، نعيش مع يوسا حالة الحب، والتمرد، والكذب، والخيانة، فنكتشف صراعنا الدائم مع الحياة، الصراع مع الذات والعالم أجمع. ليمنح يوسا القارئ رواية تناقض كل ما هو معروف عن الحب في الروايات!
وفي روايته "خمس زوايا"، يرسم لنا يوسا صورة دقيقة تنبض بالحياة للمجتمع البيروفي في ثمانينيات القرن الماضي. ومن خلال قصص عديدة ومتشابكة، يكشف عن الفساد السياسي الذي يعصف بالمجتمع، مع التركيز على كيفية مواجهة الأفراد لهذه الظروف السياسية بل والفضائحية القاسية. إن الحرية في "خمس زوايا" ليست كلمة بسيطة، بل هي معركة يومية ضد القمع والاستغلال.
وفي رواية "امتداح الخالة"، يعود يوسا إلى موضوع الهوية عبر قصة عائلية معقدة وغريبة جداً. إذ تقدم الرواية صورة للعلاقة الأسرية وتأثيرها على رسم وتحديد ملامح هوية الفرد. وذلك في الشخصية الرئيسية (الخالة) أو زوجة الأب. وتتركز فكرة الرواية حول الذاكرة وقدرة الماضي على التأثير في بناء الهوية الشخصية للأفراد.
ومن خلال استعراضنا لروايات وأعمال يوسا الأدبية أعلاه، يمكننا أن نؤكد على أن يوسا استخدم الأدب كأداة لفهم العالم ومحاولة تغييره. إذ يعكس من خلال قلمه تعقيدات المجتمع البيروفي بشكل خاص ومجتمعات العالم بشكل عام، ويركز الضوء على الحقائق المظلمة التي تحيط بنا ونجهلها من خلال شخصياته المتعددة الأبعاد. كما يقدم رؤية عميقة جداً حول قضيتي الحرية والهوية، ويؤكد على أهمية المقاومة من أجلهما، بل والتمرد من أجل تحقيق الذات والاستمتاع بالحياة في ظل عالم مليء بالصراعات والتحديات.
وإذا كان يوسا يصرّ على أن الأدب أداة لفهم العالم، فإنني أرى أن أدبه هو نافذة لفهم أنفسنا. لأنه يضعنا وجهاً لوجه أمام حقيقة مشاعرنا، تلك التي نحاول أحياناً إنكارها أو الهروب منها، لكنه يعيدها إلينا بكل قسوتها وجمالها في الوقت نفسه. وكأنما يخبرنا أن الحرية ليست بالفوز بكل شيء، بل أن نقبل بخساراتنا ونعيش رغم ذلك، أن نتمرد ولو بكلمة، أن نحمل وجعنا من دون أن نكف عن الحلم.