لماذا اطلق إدوارد سعيد في كتابه القيم (الثقافة والإمبريالية) عبارته الشهيرة عن مواقف البير كامو: (رجل أخلاقي في موقف لا أخلاقي؟). هنا لابد ان نعود الى فترة خمسينيات القرن العشرين حيث أخذ فلاسفة الفكر الوجودي في البحث عن ظواهر الوجود في الحياة ضمن مفردات (الغربة و العبث و التمرد واللامعقول) وضمن الشعور بـ( الحيرة والقلق )، التي عمت العالم في ذلك الوقت، فأخذ الفلاسفة يشعرون بـ(الضعف و الإحباط والحيرة ) دفعتهم للتفكير في أن الحقيقة الوحيدة في العالم،هي (الفوضى والعبث والتمرد) لان العالم غير حقيقي في تصورهم، فهو عالم مهزوز لا قيمة له ولا مبدأ . وهنا نتناول البير كامو (7 نوفمبر 1913 - 4 يناير 1960) بوصفه فيلسوف وجودي وكاتب مسرحي وروائي فرنسي مشهور. وُلِد كامو في الجزائر لأب فرنسي وأم من أصل إسباني. بحث كامو بـ(العبث والتمرد والثورة) فضلا عن موقفه من الثورة التحررية في الجزائر،نحاول طرحها ضمن المحاور الأتية:
- فكرة العبث: ما الفائدة من العيش إذا كنت تعتقد أن الحياة عبثية، ولا يمكن أن يكون لها معنى أبدًا؟ هذا هو بالضبط السؤال الذي طرحه كامو في عمله الشهير(أسطورة سيزيف حيث يستخدم كامو الأسطورة اليونانية كمجاز لنضال الإنسان المستمر ضد سخافات الحياة. حُكم على سيزيف إلى الأبد بدحرجة صخرة إلى أعلى التل بشكل متكرر، فقط لرؤيتها تتدحرج إلى الأسفل في دورة لا تنتهي من العمل البدني والعقلي تجسد نظرية كامو العبثية التي تدعو إلى قبول الحالة الإنسانية كما هي في أسطورة سيزيف). يطرح كامو موضوعات عبثية الحياة من خلال ان المرء ينتحر لأن الحياة لا تستحق ان تعاش والتأمل في الانتحار من خلال العلاقة بين اللاجدوى من الحياة، فكامو وكما يذكر لا يتناول الانتحار كظاهرة اجتماعية وانما يطرحها من خلال العلاقة بين التفكير الفردي باللاجدوى من الحياة وبين الحنين الى الموت، فهناك مشكلة فلسفية واحدة خطيرة حقًا، وهي الانتحار. وقد استكشف كامو هذه الأفكار في رواياته الشهيرة: "الغريب" (1942)، "الطاعون" (1947)، و"السقوط" (1956). "وأسطورة سيزيف" (1942) و "المتمرد" (1951).
- فكرة التمرد: يعد مفهوم كامو للتمرد أحد الموضوعات الرئيسية في فلسفته.،فلا يقتصر التمرد على تحدي السلطة أو كسر القواعد فحسب؛ إنها استجابة إنسانية أساسية لسخافة العالم وظلمه. في "المتمرد"، كتب كامو: "المتمرد هو الرجل الذي يقول لا". ويجادل بأن التمرد هو وسيلة للأفراد لتأكيد إنسانيتهم في مواجهة الاضطهاد ولخلق إحساس بالمعنى في عالم لا معنى له. هدف التمرد ليس حركة أنانية وذاتية من أجل مصلحة خاصة،فالتمرد لا ينشأ فقط وبالضرورة لدى المضطهد بل قد ينشأ لدى مشاهدة الاضطهاد الذي يتعرض له شخص آخر. فالمتمرد لا يتحمل مشاهدة الاضطهاد الذي يتعرض له شخص اخر، ولكن تبقى الاسباب الدافعة الى التمرد تختلف بتبدل العصور والحضارات مما لا ريب فيه ان المنبوذ الهندوسي أو المحارب في مملكة الأنكا،أو البدائي الموجود في افريقيا أو أحد أفراد الجماعات المسيحية الاولى لم يكن لديهم نفس الفكرة عن التمرد . ان الاختلاف في أسباب التمرد لا تلغي شرعية التمرد ولكن( ان مشكلة التمرد لا تكتسب معنى دقيقا إلا داخل التفكير الغربي).
- مفهوم الثورة : يجد كامو ان كلمة ثورة في حقل النظرية، تحافظ على ما لها من معنى في حقل الفلك . انها حركة تغلق الحلقة الدائرية، فتنتقل من حكومة الى اخرى بعد دورة انتقالية تامة . ان تبديلا يطرأ على نظام الملكية دون أن يقابله تبديل في الحكومة، ليس ثورة بل إصلاحاً. ليس من ثورة اقتصادية،سواء أكانت دموية أم سلمية في وسائلها، لا تبدو في الوقت نفسه ثورة سياسية. وبذلك تتميز الثورة عن حركة التمرد في وسائلها، ان الكلمة الشهيرة التالية التي قالها احد حراس ملك فرنسا عند اندلاع الثورة الفرنسية 1789(كلا يا مولاي، لسنا أمام تمرد، بل أمام ثورة)، تركز على هذا الفارق الجوهري . أنها تعني تماما (اليقين بمجيء حكومة جديدة) . فحركة التمرد في الأصل، تغير وجهتها بغتة أنها ليست سوى شهادة مضطربة. اما الثورة فتبدأ اعتبارا من الفكرة. انها ادخال الفكرة في التجربة التاريخية، في حين ان التمرد هو فقط الحركة التي تقود من التجربة الفردية الى الفكرة. ان تاريخ حركة التمرد، هو تاريخ ولوج في الوقائع بلا مخرج، واحتجاج مبهم لا يستخدم مذاهباً ولا أسباباً . اما الثورة فهي محاولة لتكييف الفعل على الفكرة، ولصياغة العالم في إطار نظري جديد. لهذا السبب يقتل التمرد أناسا، اما الثورة فتهلك أناسا وتهدم مبادئ في الوقت نفسه. فيبدو التاريخ لكامو قوةً طاغيةً تَستخدم الثورة السياسية أداةً تسحق بها الإنسان، وتقضي بها على روح التمرد الأصيلة فيه، ضمن سعي الإنسان إلى التحرُّر، واحتجاجه على الطغيان في كل صوره فالثورة بالنسبة الى كامو تهدف الى (تغيير الحياة).
- كامو والثورة الجزائرية: كان كامو دائمًا متناقضًا بشأن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وقد أثر هذا التناقض عليه بشكل كبير. دفع كامو للعمل من أجل منح المزيد من الحقوق للجزائريين بعد الحرب(العالمية الثانية)، مع وضع هدف واحد في الاعتبار: أن تظل الجزائر فرنسية. وتعكس رواية "الغريب" ورواية "الطاعون"، التي تدور أحداثهما، في وهران والجزائر العاصمة. فالجزائر (الفرنسية) في عهد كامو، تشبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا(سابقا)، كانت مقسمة إلى عالمين: عالم عربي وعالم الأقدام السوداء، وهو الاسم الذي أطلق على أكثر من مليون أوروبي عاشوا هناك. فكامو كان يمثل الجزائر المستبعدة بشكل أساسي من الخريطة، جزائر الأقدام السوداء. لذلك كان هذا هو العالم الذي عرفه كامو. على الرغم من أنه كتب خلال يونيو 1939سلسلة من التقارير عن المجاعة والفقر في منطقة القبائل الساحلية الجبلية الجزائرية. وتعد أولى المقالات التفصيلية التي كتبها أوروبي جزائري يصف فيها ظروف الحياة البائسة للسكان الأصليين .وطالب كامو الادارة الاستعمارية بوضع حد أدنى للأجور وبناء المدارس وتوزيع الأغذية فهو يقول: اذا كان لابد من تبرير الاحتلال الاستعماري فان ذلك لا يكون الا في حدود ما يقدمه الاحتلال من مساعدة للشعوب الخاضعة للاحتلال للحفاظ على شخصيتها. خلال الحرب العالمية الثانية، انضم كامو إلى المقاومة الفرنسية ضد النازيين وأصدر صحيفة سرية. كانت روايته "الغريب" التي نُشرت عام 1942 هي التي جلبت له شهرة دولية فورية. في عام 1947، صدرت روايته الطاعون، يُنظر إليها على أنها إحدى كلاسيكيات الوجودية. في عام 1957، وعن عمر يناهز 43 عامًا، فاز كامو بجائزة نوبل للآداب. كانت سياسة كامو، وليس فلسفته، هي التي أثارت ضجة في فرنسا. وعلى الرغم من أنه ينحدر من اليسار، إلا أن المحافظين هم من أحتضنه. وفي الخمسينيات، اختلف كامو مع الفيلسوف سارتر والمشهد الأدبي اليساري في باريس بعد أن ندد باليسار. أثار موقف كامو من حرب الجزائر غضب اليسار واليمين في ذلك الوقت. لقد أيد التطلعات العربية للحصول على الحقوق السياسية، لكنه لم يكن يتخيل جزائرا مستقلة. كان كامو متعاطفا مع المستعمرين الأوروبيين، ويدعم فرنسا ويرفض استقلال الجزائر. وقد صمت عن انتهاكات الجيش الفرنسي في الجزائر. كان كامو يعتقد أن الأوروبيين والجزائريين قادرون على التعايش، بل ينبغي لهم ذلك، وهو الرأي الذي أدانه العديد من أصحاب الأقدام السوداء من المستعمرين باعتبار كامو خائنا. اما الذين ينتمون إلى الحركة التحررية لاستقلال الجزائر، فلن يُغفروا له أبدًا قول كامو: في هذه اللحظة يتم زرع القنابل في عربات الترام في الجزائر العاصمة. يمكن أن تكون والدتي في إحدى تلك القطارات. إذا كان هذا هو العدل فأنا أفضل والدتي. وقف في سنواته الاخيرة يجهر علنا بل وبحدة معارضا لمطالب الوطنيين الجزائريين بالاستقلال بكلمات تثير الاكتئاب وبنبرات البلاغة الانكلو- فرنسية الرسمية ابان غزو قناة السويس : حيث يقول فيما يتعلق بالجزائر فان الاستقلال القومي صيغة من العاطفة المشوبة الخاصة فلم يكن ثمة أمة جزائرية ابداً، ولا يشكل العرب وحدهم الجزائر كلها وان الاستيطان الفرنسي والزمن أسباب كافية لخلق مشكلة لا تقارن بها أية مشكلة أخرى في التاريخ. يتناول كامو في رواياته وقصصه مثل الغريب والطاعون والسقوط ومجموعته القصصية (المنفى والملكوت) وغيرها وصف ومفاهيم ضمن إطار استعماري واضح،وعلى وفق النقاط ادناه:
- هروب كامو الزماني الذي قد يثير التقصي الواقعي للأحداث الذي يرفضها كامو ففي مقدمة روايته الطاعون يقول: وقعت الاحداث الغريبة، التي هي موضوع هذه القصة، عام (...) 194 في وهران.
- ازدراء المكان الجزائري فكامو يرسم صور للمدينة تبعث على الاشمئزاز لمكان الاحداث في وصف مدينة وهران حيث يذكر: - ينبغي الاعتراف بأن المدينة قبيحة . ولما كانت هادئة المظهر، فلا بد من بعض الوقت لملاحظة ما يجعلها مختلفة عن كثير من المدن التجارية على جميع المستويات.
- المكابرة عن الشعور بالذنب عن حجم وحشية المجتمع الاستعماري الذي ينتمي إليه كامو فهو شاهد عيان يرفض الادلاء بشهادته عن وحشية الممارسات الاستعمارية في الجزائر. وهذا يظهر واضحا في رواية السقوط التي تتحدث عن شخصية تدعى (كلامونس).
- تحتل الشخصيات الفرنسية في روايات كامو مكانة رئيسية لها أسماء و أوصاف، أما الشخصيات الجزائرية فهي شخصيات تحتل مكانة ثانوية ليست لها أسماء ولا أوصاف لا تليق بها والاسم الوحيد الذي يطلق عليها هو اسم العربي في روايته ( الغريب) في حين ان (مورسو) بطل الرواية يذكر جميع الشخصيات الفرنسية بأسمائها دون الشخصيات العربية . فكامو يجسد الاستعمار بطريقة لاشعورية.
فالنظرة الاستعمارية والمصالح الفرنسية فضلا عن تعجرف المستعمر الرافض للمساواة بمختلف صورها عبر عنها كامو اصدق تعبير فهو يعيش في تمثيل دور المثقف الثوري ضد النازية الالمانية عند احتلال فرنسا وتشكيل حكومة فيشي ولكنه يستكثر الادوار الثورية الجزائرية للمقاومة لتحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي ولعل جائزة نوبل للآداب هي مكافأة لدوره في ترجيح كفة كامو الاستعماري على محاولته لعب دور كامو الثوري وللحفاظ على ادوار استعمارية أخرى تمثلها شخصيات ثقافية تدور في أطار الاستعمار في اماكن اخرى. واخيرا: هل لخصت عبارة إدوارد سعيد (رجل أخلاقي في موقف لا أخلاقي) مواقف البير كامو؟