حين غزا نابليون مصرَ في سنة 1798 عرف العربُ الغربَ؛ عرفوه غازيًا شديدَ الغزو، وعرفوه مصدرَ علمٍ ومعرفة ، وعرفوه، من بعد، في حضارته التي أخذت تقود العصر منذ خمسة قرون؛ فنشأ سؤال: أين نحن من ذلك؟ أنكون مع تراثنا وتقاليدنا وما كان لنا، أم نكون مع هذا الغرب في حضارته الجديدة القويّة؟ وقد تعدّدت الإجابات واختلفت، ثمّ اتّخذ الأمرُ صيغة قضيةٍ عنوانها : الأصالة والمعاصرة! ونشأ سؤالٌ آخر مشتقّ من السؤال الأوّل: ما السبيل إلى أن نكونَ أصلاء ومعاصرين معًا؟ أي كيف نحفظُ هويّتنا، ونأخذ بحضارة العصر، ونفيد منها؟ وإذ اختلف القولُ في الإجابة وانشعب؛ فإنّ من الجواب ما كان شاخصًا قائمًا في فكر صاحبه وفي سلوكه؛ كالذي كان من طه حسين( 1889 – 1973 ) إذ كان إجابةً بارعةً عن مشكلة الأصالة والمعاصرة هذه؛ أجابَ بشخصه، وأجاب بفكره وأدبه! فلقد نشأ على أدب أمّته برفيع آثارها؛ حفظ القرآنَ الكريم ، ودرس النحو والصرف، وألمّ بالفقه، وهو لمّا يزلْ في عهده الأوّل في قريته النائية، وزاد في ذلك حين درس في الأزهر؛ فعرف طرائقَ الدرس الأدبيّ، وحفظ أشياءَ من الشعر القديم، واستقامت له الكتبُ القديمة بمناحيها في التأليف والإبانة. وكان رائدُه الذي سلك به دربَ الشعرِ القديم، وجعله على مشرعةِ منه في الفهم والتذوّق؛ الشيخَ سيّدَ بنَ عليٍّ المرصفيّ. على أنّ طه حسين لم يكن يأخذ كلَّ ما يقرأ، أو يسمع مأخذَ التسليم والانقياد؛ بل كان يأخذ، ويدع، ويقبل ويرفض، وكان له من يقظة العقل، وقوّة الشعور ما يسدّد خطاه، ويجعله على بصيرة من أمره، ويُريه أنّ وراء الأزهر مواطنَ أخرى للعلم والمعرفة، وأن لا بد من ارتيادها ، والتزوّد ممّا فيها؛ فلمّا وقع له أنّ معهدًا للعلم جديدًا قد أنشئ في القاهرة، وأنّ له سمتًا آخر غير سمت الأزهر، وأنّ من أساتيذه نفرًا أتى من جامعات أوربّا؛ سارع فالتحق به، وانتظم في مسار طلبته. لقد كان نشوء الجامعة المصريّة في القاهرة، في سنة 1908، أمرًا جديدًا في نظام التعليم يومئذٍ ؛ ذلك أنّها ضمّت القديمَ إلى الجديد، وجعلت من دروسها التاريخَ والفلسفةَ والجغرافيةَ زيادةً على الأدب واللغة؛ وقد وجد فيها طه حسين ما كان يبغي من معرفة العصر القائم وفكره. وإذ أفاد من المعارف الجديدة في المنهج، وطرائق التفكير؛ فإنّه لم يُخلِ يده من الأدب العربيّ، والنحو والبلاغة، وما إليها من ثقافة أمّته. وحين أراد أن يكتب رسالةً ينال بها الدكتوراه اختار أبا العلاء المعرّيّ؛ فكتب
" تجديد ذكرى أبي العلاء"، في سنة 1914، وهي أوّل رسالة دكتوراه في جامعة عربيّة. وقد التقى فيها فهمُ الشعر وتذوّقُه، بإقامة الدراسة على منهج تاريخيّ اجتماعيّ يلتمسُ آثارَ البيئة في تكوين الشاعر وصناعةِ شعره. وحين أُتيح له أن يُتمَّ دراسته في باريس، وأن يُتقن الفرنسيّة، ويُلمّ باللاتينيّة واليونانيّة؛ تزوّد الزادَ الوفير من الأدب والفكر، واختار أن يكون عنوانُ رسالةِ نيل الدكتوراه :" فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة "، مفيدًا من معارفِ العصر ، ومنهجه، في النظر إلى ابن خلدون وفكره الاجتماعيّ ؛ وقد كانت الرسالة بإشراف دوركهايم، فلمّا تُوفّي أُسند الإشراف إلى أستاذ آخر. ولقد كان طه حسين في " فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة " مثل ما كان في " تجديد ذكرى أبي العلاء المعرّيّ " حريصًا على أن يضمّ الثقافتين؛ العربيّة والغربيّة، في نسيج واحد، وأن يُؤلّفَ بينهما أحسن التأليف؛ وقد استقرّ عنده أنّ المعرفة الصحيحة المتماسكة لا تكون إلّا مع السعة والعمق، وحسنِ المواءمة بين العناصر، ووضعِ الأشياء في موضعها، وأنّ القديم هو الأساس الذي ينهض عليه الجديد.
وحين عاد طه حسين من باريس إلى القاهرة، بعد إحرازه شهادة الدكتوراه، في سنة 1919 كان قد ملأ يديه من العربيّة والفرنسيّة؛ بما فيهما من أدب وتاريخ وفكر، وكان كلا الأدبين قد ذاب في فكره وشعوره، وصارا موردَه الذي لا ينقطع عنه.
وقد كان من ثمر ذلك، وهو في أوّل عهده بالعمل في الجامعة المصريّة، أن كتب: "قادة الفكر"، وترجم
" نظام الأثينيين " لأرسطوطاليس، وشرع يكتب في الصحافة : " حديث الأربعاء ". كان في " قادة الفكر " يريد أن يعرض " لتاريخ العقل الإنسانيّ، وما اعترضه من ضروب التطوّر وألوان الاستحالة والرقي حتّى انتهى إلى حيث هو الآن." فبسط القول في " هوميروس " صاحب الإلياذة والأودسة؛ الملحمتين اللتين كانتا قِوامَ الحياة اليونانيّة قبل نشوء الفلسفة، ثمّ أدار الكلام على سقراط، وأفلاطون ، وأرسطو حتّى بلغ العصر الحديث؛ وكأنّه أراد أن يجعل فيه خلاصةَ الفكر الغربيّ؛ في عوامل نشأته وتطوّره. وإذ ترجم " نظام الأثينيين " أراد أن يضع في العربيّة وثيقة من أجلّ وثائق فقه الدستور ليهتدي بها قادة السياسة في مصر، وفي غيرها من بلاد العرب. وليس بخفي الدلالة أن يبدأ الصفحة الأولى منه بقول قاسم أمين ( 1863 – 1908 ): " الوطنيّة الصحيحة تعمل ولا تُعلن عن نفسها " ، ثمّ يُهدي الكتاب ، بترجمته ، إلى قاسم أمين فيقول : " إلى هذه الروح الكريم الخالد أهدي هذا الكتاب ؛ حبًّا له وإعجابًا به ، ووفاءً بما له على شباب مصر الناهض من حقّ . 28 مارس سنة 1921، طه حسين ".
وحين شرع يكتب فصول " حديث الأربعاء "، وينشرها في صحيفة " السياسة " ، أراد أن يردّ بها على الناس أطرافًا من الشعر العربيّ القديم، وأن يُحبّبه إلى الناشئة ، ويجعلَ بينهم وبينه حبلًا موصولًا.
لقد كان طه حسين يفهمُ الأدبَ القديم ويتذوّقه ويُقبل عليه ؛ مثلما يفهمُ الأدبَ الحديث ويتذوّقه ويُقبل عليه ، وكان يصطفي من الشرق عيونَ الآثار ويقف عندها ؛ مثلما يصطفي من الغرب عيونَ الآثار ويقف عندها.
وكان يُعلي من شأنِ العقل وطرائقه في البحث والاستنتاج؛ مثلما يُتيح للعاطفةِ السامية الرفيعة أن تأخذ وسعَها؛ ولقد ظهرت عنايتُه بإقامة الدرس الأدبيّ على عناصرَ من العقل اليقظ المتسائل، في كتابه : " في الشعر الجاهليّ " ، وظهر الوجدان الخالص والعاطفة الكريمة في كتابه : " على هامش السيرة " ، وليس بين الأمرين تضادٌّ ؛ وإنّما كلٌّ في حيّزه صالح جليل .
وهو، على تشرّبه الآدابَ الغربيّةَ، لا يقبل كلَّ شيء أتى منها ؛ وإنّما يأخذ ويدع، وعياره في ذلك؛ ما يمدّ العقلَ والروحَ بأسباب القوّة والنماء، وما يدفع عنهما الظلمات؛ فلقد أنكر أدبَ العبث، والسأمِ، وفقدانِ المعنى، وعدّه من خواء الروح.
وعُني بالتاريخ العربيّ الإسلاميّ عنايةً مستفيضة؛ ما يتّصل منه بالأدب ، وما يتّصل منه بالإدارة والسياسة، والوقائع؛ فكان شديدَ البراعة في التمحيص، والتوثيق، وإعادة بناء الأحداث.
ومن يقرأ كتبه في التاريخ يجد ذهنًا دقيقًا مرهفًا مصقولًا بالفلسفة والعلم ، ذا قدرةٍ نافذةٍ في الفهم ، والتعليل، والاستنتاج .
على أنّ عنايته بيئته ومحيطه الاجتماعيّ لا تقلّ عن ذلك؛ فلقد صوّر ريفَ مصر، وما يلقى فيه الإنسان من الشدائد، وما يركبه من المحن، وصوّر جانبًا من المدينة موصولًا بالريف ، كالذي قام به في " شجرة البؤس "، و" دعاء الكروان "، و" المعذّبون في الأرض"، فكان في ذلك كلّه قويَّ الشعور ، يقظَ الضمير، رفيعَ الإبانة عن مصائب الناس.
ونظر في من حوله ؛ في طبائعهم، وخلائقهم، فأراد لهم أن يكونوا أصفى طبائعَ، وأمتن خلائقَ فكتب: " جنّة الشوك "، مبتكرًا شكلًا جديدًا في الكتابة يلائم ما يقصد إليه من نقد .
وإذا كان طه حسين قد ضمّ الثقافتين العربيّة والغربيّة في نسيج واحد؛ فإنّهما ليسا سواءً عنده؛ بل إنّ كفّة الثقافة العربيّة هي الراجحة بتاريخها وأدبها ولغتها ؛ ذلك أنّه مُعرِق في ثقافة أمّته لا يبغي بها بدلًا ؛ شديدُ الحرص عليها؛ فلا يكتب إلّا بالبيان العربيّ الرفيع ، ولا ينطِق إلّا بالعربيّة الفصحى؛ ألفاظًا وتراكيبَ . وإنّه ، في آثاره، لا يفتأ يُلهمُ ويُسدّد ...