اخر الاخبار

ينتمي جينيه لتلك العائلة ذات العقول التي يشار إليها اليوم بالاسم البربري "التي تعيش في الماضي". ثمة حادثة اِتَّكَأَت عَلَى ذاكرة الطفولة وأصبحت هذه الذكرى مقدسة، ففي طفولته المبكرة، عُرضت دراما طقسية، وكان هو المسؤول عنها: لقد عرف الجنة وفقدها، كان طفلاً وكان قد طرد من طفولته. لا شك أن هذا "الفاصل" ليس من السهل تحديد موقعه، فهو يتجول ذهابًا وإيابًا حسب مزاجه وما يسود خياله بين سنته العاشرة والخامسة عشرة. لكن هذا غير مهم، فهو يؤمن به، فحياته تنقسم إلى جزأين غير متجانسين قبل الدراما المقدسة وبعدها. في الواقع، ليس من الغريب، أن تختصر الذاكرة في لحظة أسطورية واحدة للأحداث الطارئة وإعادة الصياغة الدائمة لتاريخ الفرد. ما يهم هو أن جينيه عاش ولا يزال يعيش هذه الحقبة من حياته كما لو أنها لم تدم سوى لحظة. أن نقول "لحظة" يعني أن نقول لحظة قاتلة. إن اللحظة هي التغطية المتبادلة والمتناقضة لما قبل بما بعد.؛ ولإنزال ما نتوقف أن نكونه وما سنصبح عليه بالفعل، نعيش موتنا ونميت حياتنا، نشعر بأنفسنا ونشعر بأننا الآخر، ونشعر والأبدي حاضر في ذرة من الزمن في خضم الحياة المليئة بالحيوية وكأننا لن نعد نعمل سوى من أجل البقاء على قيد الحياة، نخاف من المستقبل. إنه وقت الألم، والبطولة، واللذة، والدمار. لحظة كافية للتدمير، والتمتع، والقتل، وممارسة القتل، وتكوين الثروة برمية حظ. يحمل جينيه في قلبه لحظة تعود إلى الماضي لم تفقد أيًا من ضراوتها، وفراغا لا متناهيًا وفراغًا مقدسًا ينتهي بالموت ويبدأ تحولًا فظيعًا. حجة هذه الدراما الليتورجية، هي كالتالي: طفل يموت من الخزي، ويظهر قاتل في مكانه؛ سوف يطارد الطفل البلطجي. سيكون من الضروري الحديث عن القيامة، واستحضار طقوس الشامانية المسارية القديمة وطقوس الجمعيات السرية إذا كان جينيه يرفض رفضًا قاطعًا أن يكون مبعوثا*. كان هناك موت، هذا كل شيء. وجينيه ليس إلا رجل ميت. إذا كان يبدو أنه لا يزال على قيد الحياة، فمن هذا الوجود لليرقات الذي تنسبه بعض الشعوب إلى موتها في القبور. لقد مات جميع أبطالها مرة واحدة على الأقل في حياتهم.

"بعد مقتله الأول عرف كوريل Querelle هذا الشعور بأنه ميت. ومع ذلك، استمر شكله البشري، ما يسمى بالمغلف الجسدي، في النشاط على سطح الأرض.» تمتلئ أعماله بالتأملات في الموت. خصوصية هذه التمارين الروحية هي أنها تكاد لا تعني موته المستقبلي، ووجوده ليموت، بل بالأحرى كونه ميتاً، وموته كحدث سابق.1 هذه الأزمة الأصلية تبدو له أيضًا تحت مظهر التحول. لقد تحول الطفل فجأة من حسن التصرف إلى سفاح مثلما تحول غريغوار سامسا Grégoire Samsa إلى حشرة. وفي مواجهة هذا التحول، فإن موقف جينيه متناقض، فهو يكرهه ويشتاق إليه. يعيش في رعب خشية أن تتكرر الأزمة الأصلية. إنه يخشى ذلك كما يخشى نوبة صرع. "لم يستطع كوريلQuerelle التعود على فكرة كونه وحشًا، وهي فكرة لم ترد في باله مطلقًا. كان يفكر، وكان ينظر إلى ماضيه بابتسامة ساخرة، وخائفة وحنونة في ذات الوقت، بقدر ما كان هذا الماضي يندمج معه بالذات. قد يكون الصبي الصغير الذي تحول إلى تمساح وتظهر روحه في عينيه بطريقة مماثلة - إذا لم يكن على دراية تمامًا بفمه، وبفكه الضخم - قد فكر في جسده المتقشر، وذيله العملاق المهيب الذي يدق الماء أو الشاطئ أو يحتك بالوحوش الأخرى... كان يعرف الرعب كونه وحيدًا، وقد استولى عليه سحر أَبَدِيّ في وسط العالم الحي". حدد الحدث الأولي أن مناخ جينيه الداخلي سيكون مناخا مرعبًا. "قليل من اللحظات التي أهرب فيها من الرعب، قليل من اللحظات التي لا أملك فيها رؤية، أو بعض التصورات المرعبة عن البشر والأحداث" هذا الرعب هو في ذات الوقت الخوف من التحولات التي حدثت في الماضي والتوقع المرعب من تكرارها: "شاب إيطالي... كان يضحك وهو يروي بعض التجارب التافهة.... تصورته حيوانا تحول إلى إنسان. كنت أشعر أنه في وجود هذا الامتياز الذي كنت اعتقد أنه يمتلكه، كان يمكن، في أي لحظة، أن يحولني، من خلال رغبته البسيطة، حتى لو لم يعبر عنها، إلى ابن آوى، إلى ثعلب، إلى طير غيني". في كل لحظة، يخشى جينيه "المعجزة، تلك الكارثة المرعبة، المرعبة مثل ملاك. رغم أنها مشعة كحل لمشكلة في الرياضيات، ودقيقة على نحو مخيف". على الرغم من أن هذه المقاطع تهدف إلى أن تمنح خوفه تعبيرًا شعريًا، فليس صحيحًا بالضبط أن جينيه يخشى التحول إلى ابن آوى. لكن هنا صفحة فيها يعبر عن نفسه تقريبًا من دون تغيير لموضعه. جينيه في حضرة شاب وسيم يخشى الموت: "وهذا يعني أنني إما سأكون على دراية بأنني عارٍ فجأة في حشد يرى عريي، أو أن يدي ستصبح متضخمة بأوراق الشجر وعلي أن أعيش معهم، وأربط رباط حذائي بها، وأمسك سيجاري، وأفتح الباب، وأخدش نفسي، أو أنه هو نفسه سيعرف تلقائيًا ما أنا فقط في أعماقي وسيضحك على رؤيتي هكذا... أو أنني سأرى وأشعر أن قضيبي يلتهمه السمك إلى الأبد، أو أن الصداقة المفاجئة ستسمح لي بمداعبة الضفادع والجثث لدرجة التهيج الجنسي، لأنه عندما أستحضر هذه العذابات - وغيرها - فقد يخاطر موتي ليكون على معرفة بعاري الذي ظهر في لعبة المظاهر الأكثر رعباً. بحضور المعشوق". لاحظ العلاقة بين الموت والتحول "موتي يخاطر بأن يكون على معرفة بعاري. "الطفل الذي تحول إلى تمساح يخشى أن يضيئه بعض اللمعان القادم من داخل جسده أو من وعيه الخاص، ويلتقط في درعه المتقشر انعكاسًا لشكل ما ويجعله مرئيًا للرجال. وعندما يكشف عن القناع، يتحول إلى نفسه. إن التحول الذي يهدده بلا هوادة هو ذلك الوحي الذي حدث يومًا ما من خلال وساطة الآخرين ويمكن أن يبدأ مرة أخرى في أي لحظة. ومن دون أدنى شك، أن هذه الأسطورة تغذيها مخاوف حقيقية ويومية للغاية. بعد أن وصل إلى مرحلة الرجولة، يخشى جينيه، الذي يعتبر نفسه جبانًا، من الكشف جبنه لعشاقه الشبان "في حضرة من أهواه حيث بدوت في عينيه ملاكًا، ها أنا أُسقط أرضًا، أقضم التراب، أتحول من الداخل إلى الخارج مثل قفاز وأظهر بالضبط عكس ما كنت عليه.» لكن الملفت للنظر أن الإهانات الغرامية التي يتعرض لها مثلي الجنس، والمخاطر المهينة التي يتعرض لها اللص تشوبها هالة مقدسة. في مواجهة حدث يومي تافه، فإن جينيه "المقلوب"، "من الداخل إلى الخارج مثل القفاز"، العالم كله على المحك، نلمس ما لا مناص منه. إن حوادث الإثارة الجنسية هذه أو المهنية لها معنى يتجاوزها، وهي، كما قيل عن الحب، "أكثر بكثير مما هي عليه" لأنها تكشف عن “السحر الخالد"، الذي أنجب وحشًا وقتل طفلاً. هذه التحولات تبهره. ويخشاها ولا يعيش إلاّ من أجلها. بصرف النظر عن متغيرات الكينونة المفاجئة هذه، لا شيء في العالم يثير اهتمامه. بعد أن مات جينيه في طفولته، يحمل بداخله دوارا لا يمكن علاجه، فهو يريد أن يموت مرة أخرى. ويسلم أمره على الفور، لأزمات الشفاء التي تتكاثر وتحمله إلى سمو سحر الجريمة الأول، او عقوبة الإعدام، وإلى الشعر، والنشوة الجنسية، والشذوذ، وفي كل حالة سنجد مفارقة ما قبل وما بعد، صعود وتداع، حياة تراهن على بطاقة واحدة، مسرحية الأبدية والعابرة. الصور ذاتها والكلمات التي تشير إليها شبيهة بمنصة إعدام واضحة تنتأ منها الورود، "بتأثير الموت الجميل"، ومن "وخز الأبنوس" تنتأ زهور بيضاء، وبالموت وازدهار اللذة، ينهار الجسد مقطوع الرأس تحت المقصلة، ويذوي عضو أسود ويتدلى، وإذا كان التحول هو موت، فإن الموت واللذة هما تحولان. هكذا، يعيش جينيه خارج التاريخ، بين قوسين. لم يعد يهتم بمغامرته الفردية - التي يسميها بازدراء "الحكاية" - مثلما فعل المصري القديم بشأن تاريخه القومي. إنه لا يعير اهتماما  لظروف حياته إلاّ بقدر ما تبدو أنها تعيد تكرار دراما الفردوس المفقود الأصلية. إنه رجل التكرار: تكرار الزمن الرخو، البطيء، في حياته اليومية - الحياة الدنيوية حيث فيها كل شيء مسموح به قد اجتازته المظاهر المقدسة البارقة التي تحيي فيه آلامه الأصلية كما يحيي لنا الأسبوع المقدس آلام المسيح. بالطريقة ذاتها التي لم يتوقف فيها المسيح عن الموت، كذلك جينية لم يتوقف عن التحول إلى حشرة، فذات الحدث النموذجي يتكرر بذات الشكل الطقسي والرمزي من خلال احتفالات التجلي نفسها، فبالنسبة إلى جينيه، وبالنسبة إلى المؤمنين في مجتمع ديني، فإن الزمن المقدس زمن دوري، إنه زمن المعاد الأبدي. فكان جينيه، لقد عاش جينيه. أما بالنسبة للحدث الذي حسم مصيره، فلم يعد ذكرى منذ زمن طويل لينتقل إلى فئة الأساطير، بحيث يمكننا أن نطبق على جينيه كلمة فكلمة ما كُتب عن العقلية البدائية "ما يمكننا إن نسميه "تاريخ (ـه) الذي يقتصر حصريًا على الأحداث الأسطورية التي وقعت في ذلك التوقيت ولم تتوقف عن التكرار منذ ذلك الحين حتى أيامنا هذه 1. ليس لجينيه تاريخ مُدَنَّس، بل لديه تاريخ مقدس فقط. أو، إذا صح التعبير، مثل ما يسمى بالمجتمعات "القديمة"، فإنه يحول التاريخ باستمرار إلى مقولات أسطورية. إذا أردنا أن نفهم هذا الرجل وعالمه، فلا توجد طريقة أخرى سوى إعادة البناء بعناية، من خلال التمثلات الأسطورية التي يقدمها لنا، والحدث الأصلي الذي يشير إليه باستمرار والذي يعيد إنتاجه في احتفالاته السرية. وعليه فمن خلال تحليل الأساطير سنشرع في إعادة تأسيس الحقائق بأهميتها الحقيقية. كان جينيه يبلغ من العمر سبع سنوات. عندما وضعته جمعية حماية الأطفال العمومية في رعاية فلاحي منطقة مورفان. فعاش على غير هدى في الطبيعة “في حالة من الفوضى الوديعة مع الناس". يتلمس العشب، والماء، ويلعب، ويتنقل في كل أرجاء شفافية ريف غير مأهول، باختصار، إنه بريء. هذه البراءة يخلعها عليه الآخرون، كل شيء يأتي إلينا من الآخرين، حتى البراءة. البالغون لا يكلّون أبدًا من جرد ممتلكاتهم، وهذا ما يسمى بالانتباه. يكون الطفل في القرعة بين كرسيين أو تحت الطاولة، تلقنه نظراتهم، وتكمن سعادته في كونه جزءًا من الأسهم. أن تكون هو أن تنتمي إلى شخص ما. إذا كانت الملكية تحدد الوجود، فإن الولاء الهادئ والرصين للممتلكات الأرضية يحدد الخير. جينيه، صالح مثل التربة الصالحة، وفيّ مثل مِدَمَّة، مثل معزقة، نقي كالحليب، هكذا نشأ على نحو من التقوى. إنه ولد صغير طيب، طفل محترم وحنون، أضعف وأصغر زملائه، لكنه أكثرهم ذكاءً. وهو دائما الأول على صفه من دون عناء. فضلا عن ذلك فهو بهذه الجدية، رصين، وغير ثرثار باختصار، كان صافيا كالذهب. هذا الخير بسيط: للمرء آباء يعبدونهم، ويقوم بواجباته المنزلية في حضورهم، وفي المساء قبل الذهاب إلى الفراش يرتل صلواته. في وقت لاحق، يصبح المرء بدوره أيضًا مالكًا للأشياء ويعمل بجد للادخار. العمل والأسرة والوطن والصدق والملكية: هذا هو مفهومه عن الخير. إنه محفور في قلبه إلى الأبد. في وقت لاحق، على الرغم من حقيقة أنه يسرق ويتوسل ويكذب، إلا أنه لن يتغير. يقول الكاهن المحلي أن تلك هي طبيعته الدينية.