لسنا معنيين بالفكرة التي يمكن تبسيطها بانها الصراع الوجودي العراقي ازاء الاحتلال الامريكي منذ عام 2003 وتقاسم رواية (الامريكان في بيتي)الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر للروائي نزار عبد الستار، شخصيتان من عائلة واحدة ازاء الموقف من وجود الامريكان.
انما نحن نتابع مقدار تمكن الروائي من الحرفة الفنية التي تتيح للسرد الديمومة التاريخية لعمل فني لا يشيخ او تنفرط دواعي وجوده بين الاعمال الروائية العراقية التي اعتنت بالحاضر وردود الافعال المباشرة على الانقلاب الحياتي،الاجتماعي والسياسي في العلاقات المحلية والدولية عقب دخول الامريكان الى العراق.
وهذا ما عززه سرعة انتقال عدوى القلق والتوفز من الراوي العليم وقلقه من الحوار مع الاخرين الى القارئ وهذه حالة صحية يتمكن من احداثها الراوي باللقطات السينمائية المكثفة والمزدحمة في مشهد واحد لغرفة الجلوس منذ بداية الرواية والصراع بينه وبين اخ زوجته الذي يطلب منه مغادرة العراق. واللمحة الفنية الاكبر في السرد،هي فنتازيا ان يعيش معك الجيش الاميركي في البيت يصعد الى الطابق الاعلى ويستعمل حمامك بدون حساب ولاقيد او شرط وكأن البيت شارع عام،وهذا ما يقصده الروائي نزار عبد الستار في وصفه للاحتلال، باعتباره استباحة على المستوى العام ولكنه قرب الموضوع الى ما يصف تشكل اليأس في خضم الواقع الذي تبدل،من سياسة الحزب الواحد الاحد الى الاجنبي الذي يراقب الاخرين ويشكك بهم عبر بيتك وشبابيكه وانت تعيش حياة مرتبكة خائفة مقيدة مجهولة المصير.ان البيت هنا هي البلاد وجلال بطل الرواية صحفي ومدون بمعاونة الاخرين،اذن هو الشاهد المحلي لما يجري من متغيرات في اسلوب المراقبة وحجب الحريات.
وتقسيم الرواية الى فصول معنونة بدون ترقيم لانها تحدد الرؤيا فيما الاسماء مفتوحة تبدأ بفصل قطع البسكويت وتنتهي ب(ظهور الملائكة) حيث رسمت خارطة للصراع بين متماشي مع التغيير الجديد وبين جلال الذي يريد ترميم المكتبة والحفاظ على قلادة الملكة شمشو وفتح السينما والانتماء الى منظمة الدومنيكوس رغم ما يشوبها من ارتباك في توضيح القصد ولكن البطل جلال يتشبث بكل السبل من اجل ان يكون نقيا وصافيا،ليحافظ على كيانه بالحرية الممكنة وراي الاخ كمال يلخص طبيعة جلال الخالصة (الافعال المتوحشة هي التي تضع النهايات لكن من المحزن ان ينقطع التاريخ او يموت..انت الوحيد الذي يستطيع المحافظة على الاشياء الثمينة.انت طيب القلب،ونظيف الدم وتعرف ماذا تعني الكلمات.حتى ولو فقدت ثقتك بالوطن فسيبقى لديك الشرف والامانة والاخلاص.وان فقدتهم ليأس ما فسيبقى لديك الحب،وهذا ما لا تستطيع اي قوة في الوجود تشويهه فيك)ص 109.فما ان رحلت زوجته حنان واطفاله مع عائلة اهلها فانه ترافق مع الصحفية والمترجمة (مناسك) وخالتها في فضاء من التحرر والمتعة والعمل، وانحاز جلال لمجموعته،ابراهيم توسان وعنبر عربانة وشاكر بدران ازاء عالم اخر تشكل من الميجر ويمبر والجنرال بترايوس وكمال وتوفيق وسندس.
وكل هذا العالم الفني السردي بمعسكريه المتقابلين تقسمه قلادة الملكة شمشو باعتبارها رمزا للتاريخ العام والمشترك وبقيت حيازة القلادة متارجحة بين كمال الذي سلمها لجلال والتي تلبسها مناسك في لحظات التجلي العاطفي مع جلال في بيت الخالة.والرواية تسير بخطين واضحين خط يتماهى مع المتغيرات كي يعيش وخط يريد الحفاظ على تاريخ ذاكرته وامدادها بالكتب والسينما والاطفال في فضاء من الحرية.على الرغم من اصطباغ افعالهم الجديدة بمفردات فرضها الواقع كما تتغزل مناسك بجلال في فصل (الاندلس) بمفردات التفجير والدم واللحم والموت في قبر واحد،لان الروائي يريد ان يقول ان الغيمة الماطرة دخانا وعويلا شملت الجميع وغيرت مفردات ذاكرتهم وتعابيرهم. فيما يصف جلال الجنس والعلاقة الزوجية بينه وبين حنان وتحولاتها في ص 98 (كان ذلك ابطالا لمفعول الرغبة وتعطيلا ظالما للغات الحواس.كنت اميل الى الاعتقاد ان الشئ الاكثر تضررا في العراق جراء الحروب هو الجنس.لقد ادامت حنان في روحي فظاعة التعتيم وصفارة الانذار،بقيت اعاني من ملابسات ان تفسر حركة اصابعي المتوددة لرقبتها على انها محاولة للخنق).اننا ازاء تحولات نفسية اجتماعية قاصمة يصعب التراجع عنها لانها حدثت بفعل هزات عميقة في الوجدان العراقي،مما يعكس تشوه الجنس والرغبة ويعزز انفصال جلال عن واقعه وايقاع عصره الذي يمشي برجل شوهاء واحدة. ورغم ان الرواية لا تخرج من مكان واحد هو محافظة نينوى الا ان اشارات التاويل تشير الى البلاد باجمعها.
وفي فصل (باربيكيو في حديقة الشهداء) هنا يستقيم السرد بواقعية ساحرة تسرد الوقائع والحوارات استنادا الى الفنتازيا في البداية...لقد اصبح تدخل الاميركان في كل مفاصل الحياة امرا طبيعيا يسعى الكاتب لترسيخه بكل قوته حتى يصبح شاهدا على حقبة جديدة لم يفكر بها العراقيون ابدا.وهو يشكك في معرفة الاخرين بوجود الاميركان في بيته وكانه يعيش بطاقية الاخفاء.
ثمة ملاحظة في فصل (بيت المكاوي) يتحول البطل الى الراوي العليم الكلي لانه يعرف ارتفاع الحائط ونوع اللغة التي تحملها الكتب ومنمنمات صناعة الكراسي،كان الاجدى استخدام تعابير تقريبية مثل مايقارب او ان اغلب الكتب حتى لا تفلت الشخصية الرئيسة من وجداننا.
كل ما يعتمل في داخل الروائي نزار عبد الستار او الراوي العليم هو مواجهة واقع جديد،يشبه المدية التي تمزق اللوحات او الفيل الذي يسير في غرفة ضيقة، وهذا ما جعل الازمة الخانقة في اختيار كتابة سرد واقعي حكائي وخيالي في نفس الوقت،ليستميل القارئ لحكاية هادئة فيها بداية ووسط ونهاية مستحيلة،لان الحدث اكبر من الروي،والواقع اوسع من السرد لذا يلجأ الروائي الى الفنطازيا التي ستمكنه من نقل الاحاسيس الى بؤرة متفاعلة مع ما يحدث بصورة مرعبة،لحد ان الامريكان يشغلون البيت ويطلبون من جلال البقاء فيه ولا يغادره الا بامرهم،مع اننا لم نر بابا يدخلون منه وكأنهم كائنات هلامية،دخانية تنوجد متى تريد داخل تفاصيل بيت جلال وحتى اذا اراد جلال الخروج فانه يتسلل عبر سلم من النافذة الى خارج البيت.
لجأ الروائي نزار عبد الستار في الفصل الاخير (ظهور الملائكة)الى المخيال السردي والهذيان الاقرب الى الايقاع الشعري حين كان يرافق مناسك في حوارية مشتركة مع صاحبه ابراهيم توسان وكان هناك بشر قادمون للمساهمة في اطفاء حريق بيت مكاوي وقد انقذوا كتاب الوثائق،حيث المشهد تنيره اضواء الحريق واشتعال الحوار المتصاعد دراميا بين جلال وابراهيم (-اهولاء نحن؟
- اتراني الان؟
- ارى..
- ها انا الوح بيدي حاملا نسخة من كتاب الوثائق..اتراني؟
- ارى..)
حتى نصل الى نهاية الرواية بسؤال ابراهيم الموجه الى جلال (- ماذا ترى ؟)
فيجيبه جلال(- احلام..احلام) ص207
فيفتح الروائي التأويل بكل امكاناته التي قد تعني تحقيق الاحلام..او ان الامور اتجهت نحو الاحلام في فضاء التمني وسعي مجموعته بخيال الامساك بخيوط الاحلام المتطايره وسط اللهب المتصاعد،في رواية تتمتع بصفاء الحوار المتوازن والمقتصد واللغة الصافية والرشاقة والتهكم القريب الى العزاء ازاء الخسارات.