من المتعارف عليه في أي قطاع من قطاعات الحياة وضمن أي سياق من سياقات العمل والوظيفة أن يؤدي تشخيص السلبيات إلى وضع الحلول والدفع باتجاه ايجاد معالجات مناسبة، تكون كفيلة بإزالة ما هو سلبي أو في الأقل تحد من انتشاره ضمن الوسط المعني به ذلك القطاع أو السياق.
وإذا حددنا هذا القطاع بالدراسات العليا، فإنّ عددا من الظواهر السلبية والقضايا الشائكة لحقتها وأصابتها في المقتل. وقسم منها سبق أن طرحناه في أكثر من حوار وندوة، وهي جزء من معايشتنا لواقع هذه الدراسات الذي يزداد ترديا يوما بعد يوم. والمؤلم حقاً أن ذلك كله كان يمر من دون أية حلول ذات جدوى، بل بالعكس نلمس مزيدا من السلبيات تترى ومعها تتعاظم الاشكاليات ويزداد القفز على السياقات الجامعية. وهذا كله مما يعيق مسيرة الدراسات العليا ويتجه بها نحو طريق مسدود، يكون واجبا معه حصر نطاقها إن لم نقل تجميدها. وتتوزع هذه السلبيات والمعوقات بين مستويات عدة، منها ما يتعلق بالموضوعات ومنها ما يتصل بالإشراف والمناقشات والتدريس. فأما الموضوعات، فإن مما صار معتادا وطبيعيا في غالبية الأقسام اختيار ما هو مطروق على وفق كليشيات معروفة، صارت من كثرة التكرار والاجترار ممجوجة. وليس غريبا إذا قلنا إن لجان السمنارات هي التي تفضل مثل هذه الكليشات لأن الاتفاق لا يتحقق إلا عليها. وبهذا الشكل يتم تسجيل موضوعات الماجستير او الدكتوراه من دون أي وازع بالتجديد. ومن يقم بعملية احصاء بسيطة لعنوانات الرسائل والاطروحات الجامعية المنجزة خلال عام واحد في قسم أو تخصص معين، فسيجد أن التشابه والتقارب بين كليشات اطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير كبير وواضح. ومن هنا نفهم لم لا ينتج عن هذا الكم الكبير من الدراسات العليا أية نوعية تذكر إلا ما ندر.
وعادة ما يُلقى بالسبب على الطلاب بحجة أنهم هم الذين يبحثون عما هو مطروق وسبق السير فيه، غير أن ثمة سببا آخر أكثر فداحة هو عجز أساتذة الدراسات العليا عن تطوير قابليات طلبتهم والدفع بهم باتجاه دراسة موضوعات جديدة يستحثونهم على أن يغامروا في دراستها كي يأتوا بشيء نوعي وله قيمة معرفية.
والواجب في معالجة هذه السلبيات هو العمل بالمادة التاسعة من تعليمات الدراسات العليا وملخصها أن الطالب يقدم خطة الموضوع الذي يرغب بدراسته إلى لجنة من ثلاثة أساتذة، وتناقش اللجنة الخطة مع المشرف ثم يسجل الموضوع ويصادق عليه مجلس الكلية. وبذلك نتخلص من تبعات لجان السمنارات التي عادة ما تعتمد مبدأ التصويت بالأغلبية في اقرار الموضوعات حتى وإن كانت هذه الأغلبية غير متخصصة في ما تبت فيه.
والحال نفسه على مستوى الإشراف إذ عادة ما تجد أساتذة لهم يد طولى في القسم أو لهم أساليبهم التي تجعل سقف إشرافهم على طلبة الماجستير او الدكتوراه متجاوزا الحد على خلاف ضوابط الاشراف والتعليمات المعمول بها في الدراسات العليا. أما مسالة الكفاءة العلمية والمجهود الفكري في نشر الأبحاث والمشاركة في المؤتمرات، فآخر ما يُحسب له الحساب عند توزيع حصص الإشراف على الأساتذة.
أما لجان المناقشات فإن تشكيلها يتم بالاتفاق مع المشرف على أساس أن مرضاته مقدمة على أي شيء آخر. وهو أمر غريب حقا لأن المعتاد ألا يكون للمشرف أي تدخل في تشكيل لجنة المناقشة، بل من العيب عليه أن يعترض على أي عضو اختير لمناقشة طالبه. وثمة ضوابط أخرى ينبغي أن تراعى عند اختيار أعضاء لجنة المناقشة لا كما يحصل حاليا وهو أن يدعى أحدهم ألى المناقشة كي يقوم هو بدوره بدعوة من دعاه بالمثل.. ناهيك عن مسائل أخرى تأتي في سياق الاتفاقات في الكواليس على الدرجة وطبيعة المدة وتصحيح الرسالة أو الاطروحة والحصول على تواقيع الأعضاء وما إلى ذلك مما هو معروف ومعتاد، وغيره مستحدث وفي طريقه إلى أن يترسخ ويصير معتادا أيضا فضلا عما يتعلق بمساومات ما قبل المناقشة وما بعدها، وبعض منها يُثقل كاهل الطالب بمجموعة أمور لا علاقة لها بالجانب المعرفي والعلمي.
ولا يختلف الحال على مستوى تدريس طلبة الدراسات العليا، فالطلبة بالعموم يأتون وفي ظنهم أن لكل أستاذ( ملزمة) عليهم أن يعتمدوا عليها، ومن خلالها يجتازون السنة التحضيرية. ومن ثم لا عليا تنطبق عليهم ولا على أساتذتهم، إنما هي دراسات أولية في المبتدأ والمنتهى.
ومن المؤسف أن تشخيص هذه السلبيات - وغيرها كثير مما لا يسع المقام لذكره - لا يسفر عن معالجات وما من جديد يأتي بأي أكل لا في الأوان العاجل ولا في الغد الآجل. أي بلا حلول تتضمن عقوبات بحق من يصر على ممارسة هذه السلبيات. وإنما الواجب السكوت وتقبل الأمر الواقع حتى كأن الحديث في مثل هذه المسائل السلبية لا يعدو أن يكون حوار طرشان إن لم نقل إنه هواء في شبك.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاصرار على المكاشفة وفضح المستور يحدونا إلى المضي في هذا المجال والكتابة فيه، أملا في أن تكون ثمة حلول مستقبلية تصحح الأخطاء وتقوم المعوج. وكما يقال فإن كثرة الطرق على الحديد قد تفل أواصره. وبهذا قد تتلاشى بعض هذه الظواهر. أما تركها كي تزول من تلقاء نفسها، فذلك وهم كبير، إنما هو الحزم والجد في القضاء عليها من خلال مجموعة من القرارات الجريئة والفعالة. هذا إن نحن أردنا فعلا انقاذ ما تبقى مما نسميه دراسات ( عليا).