يُقَرُّ عنوان طالب الماجستير أو الدكتوراه ويكتب بحثه، من خلال سلسلة من اللجان، بدءا من لجنة السمنار، ثم لجنة الدراسات العليا المسؤولة عن إقرار الموضوع. وصولا إلى لجنة المناقشة التي سأخصّها بالحديث. لأنّها أكثر لجنة تتدخّل في نص الرسالة. وفي أثناء المناقشات يستطيع أي متتبّع أن يُحصي عشرات الفوائد من الملاحظات والأفكار، التي يقدّمها الأساتذة المناقشون- لاسيّما الأكفاء منهم- للطالب ولرسالته. بل إنّ بعض أعضاء لجان المناقشات يقدّمون تحليلا لبعض النصوص، ويتبرّعون بفقرات واسعة تتضمن أفكارهم. يجدها الباحث مسجّلة على صفحات رسالته أو تُقال له في أثناء المناقشة. ومجمل هذه الأفكار الخاصة بالأساتذة ستُضاف إلى الرسالة وهي ليست منها!
ترى هل يحق قانونا للباحث أن يضيفها إلى رسالته؟! وهل يجوز أصلا أن يقدّمها الأساتذة المناقشون؟! أليست الرسالة موضع المناقشة ليست سوى ورقة امتحانية والهدف من المناقشة منح الباحث درجة تناسب مستوى تلك الورقة الامتحانية يوم المناقشة، وليس بناءً على ما ستكون عليه مستقبلا بعد ملاحظات اللجنة؟!. الجواب: نعم، هي ورقة امتحانية ودرجتها تُعطى بناءّ على واقعها يوم المناقشة.
نحن في واقع اجتماعي ثقافي يتحرك بمنطق العلاقات الاجتماعية والتعاطف الانفعالي، أو ما يمكن اختصاره بثقافة "الخطيّة". وبناء على هذه الثقافة يصبح الباحث "خطيّة"! فنقدم له أفكارا مجانية، يضيفها إلى رسالته وينشرها على أنها من منجزاته!. ويندر أن تجد باحثا أشار في هامش رسالته قائلا هذا الرأي للأستاذ الفلاني قاله في لجنة المناقشة.
وهذا كلّه حاصل في الواقع، وهو غير سليم. هو غير سليم على المستوى القانوني الذي ينظّم المناقشات العلمية ويحدّد دور المناقشين، فهم ممتحنون وليس من واجبهم المشاركة في كتابة الرسالة، واجبهم قبل كلّ شيء قبول الرسالة أو ردّها، وتحديد درجة للطالب إن قُبلت رسالته، بناءً على المستوى العلمي لواقع الرسالة، بعد مناقشة الطالب فيها، والتأكّد من قدرته على الدفاع عن رسالته وآرائه، وبأنّه الكاتب الفعلي، وليس المستعين بغيره. وهي ليست صحيحة على مستوى الأمانة العلمية، حين لا يشير الباحث إلى اسم الأستاذ صاحب الرأي الذي أفاد منه الباحث وأدخله في رسالته.
بل ثمّة مسألة تخدش أخلاقيات البحث العلمي قد تنجم عن هذا السلوك، يرتكبها الطالب بوعي منه، أو بفعل النسيان، أو جهلا منه بحدود حقوقه وحقوق الأستاذ المناقش الذي قدّم له الرأي فأخذه، وصار حقّه وكأنه المالك. فإن كان هذا الرأي منشورا للأستاذ قبل المناقشة صار الباحث سارقا وبالدليل، فرأي الأستاذ موثّق ومنشور. وإن كان رأي الأستاذ ليس منشورا وموثّقا وأخذه الباحث، صار الباحث مُغيرا على رأي الأستاذ، والأستاذ مُغارا عليه. وقد يقع الأستاذ في موضع الشبهة أو حتى في شرك التهمة، دون أن يدري. وهذا يحصل حين ينشر رأيه الذي قاله في المناقشة دون أن يتنبّه إلى أن الباحث سجّله في رسالته وصار منسوبا للباحث. وهنا سيبدو الأستاذ المسكين سارقا من هذا الطالب!، في حين هو مُغار عليه جهارا نهارا.
كل هذه الإشكالات وضياع الحقوق واختلاط الحدود، إنّما تأتي أولا وقبل كلّ شيء من أمرين: أولهما عدم وعي بالقانون الذي ينظم المناقشات العلمية ويضع واجبات اللجنة المناقِشة، فهي: لجنة امتحانية وليست لجنة إغاثة للباحثين، وساعة المناقشة ليست حفلة تبديد لأفكار الأساتذة من غير توثيق وإحالة عليها. والأمر الثاني الذي يدفع بهذه الحالة هو أننا نُقحِم قيما ثقافية اجتماعية في المسائل العلمية والقانونية ومنها حق الملكية الفكرية. وأظنّ أنّ ثقافة "الخطيّة" وثقافة "الفزعة" داخلتان فيما أتحدث عنه، وكلاهما خطر على القيم الأكاديمية.
والأستاذ الذي امتدت تجربته في الدراسات العليا والمناقشات- ولعلّي من هؤلاء- قد يستطيع تلمّس بعض آرائه الخاصة في هذه الرسالة أو تلك من غير أيّة إشارة إلى مصدرها!، بل في كثير منها قد لا يحظى بكلمة شكر واحدة!. ولعلّ شعورا تدخّل هنا، ليمنع هذا الأستاذ أو ذاك من مطالبة الذين ناقشهم، من الإشارة إلى مصدر الرأي حين يقرر أن يضيفه الطالب إلى رسالته، وأظنّه شعور "الترفّع". وهنا وضعتُ كلمة الترفّع بين هلالين لأشير إلى عدم يقيني من دقتها في هذا الموضع من العمل الأكاديمي. لأني الآن، حين أنظر بموضوعية إلى دقة هذا الشعور بعد رحلة طويلة في لجان المناقشات أجده ليس شعورا حقيقيا، ولعله أقرب إلى فكرة التفريط بالحقوق، منه إلى الترفّع. لا تُحلّ هذه المشكلة من خلال كثرة الآراء التي يقولها المناقشون ثم يجبرون الباحث على ذكرهم والإحالة عليهم، فهذا طريق قد يفتح بابا لِمَن يجدها فرصة أن يكون اسمه حاضرا في متن أو هوامش كل رسالة يناقشها. وفي مثل هذا الاحتمال الممكن سيكون الترفّع محترما ومحمودا. الحل هو أن نعي أنّنا نناقش طالبا يسعى إلى نيل درجة علمية، وواجبنا أن نمتحنه، لا أن نؤلّف له.
وأن نعي الفرق بين الآراء العلمية الخاصة التي قد يقولها الأستاذ ويجد الباحث ضرورة في الإفادة منها، وفي هذه الحالة ينبغي أن توثّق؛ وبين الملاحظات العابرة والأوامر والنواهي... التي يصدرها الأستاذ المناقِش.
وأن تُزال من أذهاننا كلّ القيم الثقافية التي ذكرتها، فلا "الخطيّة" ودلالتها على العطف لها معنى هنا، ولا "الفزعة" مناسبة للعلم والأكاديمية. حقّا، علينا أن نزيح القيم الثقافية الدخيلة على السياقات الأكاديمية، وأن نفكّر في هذا الأمر بموضوعية وأناة، وأن نُغادر منطقة الحماس والانفعال ما استطعنا، فهذه أرض ملغومة بالمتاعب والمصائب.