اخر الاخبار

سؤال طرحته على نفسي بعد أن طالعتني شاشة التلفاز برحيله. لم يكن الجواب عسيراً على كل من عرف هذا الإنسان الكبير قبل أن يكون فناناً كبيراً جاهد بشكل استثنائي ليكوّن رسالته المكللة بالمبدئية والفكر النيّر. منعتني نفسي من القول والاعتراف برحيله ،وإنما ملأتني القناعة كونه سافر كما هاجر إلى ديار الغربة .لكن السؤال الحاضر بعزلتي عن العالم الآن هو :لِمَ يكون الوطني مطروداً عن أمكنته وحواضنه الأصيلة .لكن الجواب ولّد أسئلة أستل منها: لقد شهدت له أمكنة البصرة صوّر وفعاليات يندر أن تتوفر إلا للقلائل من الوطنيين والفنانيـن الذين لم يتربوا إلا في مدرسة الوطن التي زرعت فيهم قناعة كيف يحب الوطني كل من أخلص لوطنه في كل بقاع الأرض. لذلك لم تكن ثقافتهم محصورة بنمط ضيّق ،بل اتسعت لتروي حقول استقبلت المياه بكل رغبة وشغف .كلهم كبار(بنيان صالخ ،ياسين النصير ،قصي البصري ،جميل الشبيبي ،إبراهيم الجزائري ،قصي الخفاجي) فقد عشقوا جميعهم(تومان) عامل السينما والممثل الشعبي الذي أنجبته الحياة ،كي يقدم الفرح والضحكة بطبق نظيف ولكل المارّة في الأسواق والشوارع الرئيسية وأزقة السيمر والبصرة القديمة والعشار .هؤلاء جميعاً خلقوا من طينة الوطن وبللوها بماء شط الخورة وسواقي البساتين وشط العرب .و(قصي البصري) من هذا المزيج.عليّ الآن أن أُركز على مشهد أعتبره نادراً ومهماً في حياتي الثقافية حيث جرى اللقاء التاريخي كما أراه .وصل القطار إلى محطة (لقيط) الصحراوية ،حيث يقل الأخوة(ياسين النصير ،قصي البصري),وشاهدا المكان الذي كنت مرمياً في رحابه للعمل بسلك التعليم فأثنيا على صبري .حملنا القطار القديم ذي المساطب الخشب .كان الوقت ظهراً ،حيث استبدل القطار سيرة في النهار بعد حرب حزيران .كانت الهزات المتواصلة أطربت الأخ (قصي)، فابتسمت عيناه قبل فمه.ولا أذكر هل غنى(أنا ممنون لأبو نونة؟) لكن تمتعنا بزمن جميل ومبهج .كانت دواخلهم تتلهف شوقاً حين  شاهدا مدينة الناصرية بشوارعها ومياه فراتها وجسورها ومحطاتها ،كذلك الشوق يزداد لمشاهد العرض المسرحي الذي يقيمه الفنانون لنص مسرحي من تأليف وإخراج الفنان(مهدي السماوي). وكانت الاجراءات الموجبة قد تمت بروية كما لو أنها بدت مخطط لها حتى العرض المسرحي الذي ابتهج كل من شاهد (ياسين النصير وقصي البصري) وأنا أرافقهم إلى قاعة العرض ،إنه حدث متميز لمثقفي الدينة الذين يعرفون من يكون (ياسين النصير)وعلامة(قصي البصري) أوبريت (بيادر خير).تجمع كل الفنانين للسلام عليهما واستقبالهما بحفاوة يستحقونها ،حيث باركوا تلك الخطوات التي حملت روحين وعقلين مثقفين ووطنيين من البصرة إلى الناصرية.كنت أؤمن بأن في دخيلة كل فنان يدور خاطر مفاده: سترون أيها الضيفين الكريمين عرضنا الذي تحف به نظراتكم الإبداعية والنقدية .كانت القاعة مكتظة بشكل استثنائي ،وقُدم العرض بنجاح ترشح من خلال ما احتوته الجلسة الخاصة بعد العرض ،والمتضمنة وجهات النظر لكلا الضيفين باجتهادات دقيقة وفنية مرهفة .وكانت الليلة قد شهدت إعداداً من قبل الفنانين والسماوي لضيفين كريمين تجشما السفر من البصرة إلى الناصرية لمشاهدة عرضاً مسرحياً في لباس التجديد وشجاعة المحتوى كما اعتاد المؤلف في كل كتاباته ،كذلك الممثلين الذي امتلكوا قامات رشيقة طُوعت إلى الإبداع في الأداء.

كيف يمكن نسيان مثل هذا الحدث الذي شكّل تاريخاً لنا جميعاً ،ابتكرته قامات من كبار المثقفين في البصرة .وعند العودة في اليوم الثاني نهاراً ، كانت صحبة استثنائية بمائدة متواضعة أُعدت في المنزل الشعبي الذي أنتمي إليه .كانت المائدة شهدت الضحكات والتعليقات الطيبة .سار بنا القطار حتى محطة أُور، حيث استقبلناه بقطار عائد من بغداد اخترق فيافي الصحراء مودعاً بعد توقف قصير في كل المحطات على الطريق .ولم يراودني خاطر بأني سأترك أُخوي باتجاه منفاي .فكلما دنت محطة (لقيط) تمسك قلبي يد مباغته .لكثرة الأسئلة حول الكيفية التي أُقضي فيها وقتي في هذا الاتساع الصحراوي ،وطبيعي ذكرت بالقراءة ،فاتسعت عيونهما بالشد على هذا الاصرار الذي يقاوم العزلة المفروضة.وحين بدأت الماكنة تصد الصافرات اهتز قلبي وكياني فجأة ،وتكور الزمن وسار كما سار القطار وهما يحدقان بقامتي التي سأسلمها كما اعتدت لمن أخرجني باتجاه الزمن الصحراوي .سار القطار وهما يلوحان لي من خلال شباك القاطرة ،حتى توارى وغدا نقطة في آخر السطر الحديدي.

كيف يمكن يا قصي نسيان روحك التي تحاكي خضرة الأرض ومياه شط العرب ودرابين كل أحياء البصر وسوق الهنود وكرنفال سوق الجمعة وسينما الوطني وشارع بشار والكويت والهنود الذي يفغم الأنف بروائح البهارات التي نحملها لبيوتنا هدية من البصرة. بربك هل يمكن نسيان كل هذا؟ أنت لم ترحل إلى الأبدية والأماكن الغامضة ، بل استبدلت مكانك لزمن سوف يكون قصيراً ونحن ننشغل بذكرياتنا معك ومع صحبك النجباء.