التاريخ بعض الذاكرة، فهو ((المعطيات الواقعية التي يجري جمعها فقط. وتكون موضوعًا للذاكرة)) [موسوعة لالاند: 559] إنَّه (( ركمٌ من الوثائق)) [نفسه: 558] على حدِ تعبير أرسطو، أمَّا الذاكرة فهي مستودع الأحداث والتجارب الذاتي منها والجمعي، فيتصل التاريخ بالتدوين والتوثيق في حين تحتضن الذاكرة الكتابي والشفاهي من دون تحيّز لأحدهما سوى عبث النسيان بالشفاهي .
وباستدعاء ثنائية الذاكرة التذكر، إذ يكون التذكر بعض الذاكرة فهو استدعاء الذكريات وإحضار الماضي إلى الحاضر، فيكون التاريخ حينئذٍ فعل تذكر، إذ يستدعي من الذاكرة بعضها فيدونه بهيأة وثائق تغلب عليها الصبغة الرسمية، ولا يكون هذا بعيدًا عن مباركة الحاكم.
إن كنتَ توافقني على هذه المقدمات فهذا يعني أنَّني استدرجتك إلى السؤال الآتي: هل التاريخ صنيعة السلطة؟ يجيب ابن خلدون ضمنًا عن هذا عند حدِّه للتاريخ بقوله:(( فنٌّ عزيز المذهب، جمُّ الفوائد... إذ يوقعنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلافهم، والأنبياء في سيرتهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرويه))[المقدمة: 92]، يتأسس تعريف ابن خلدون للتاريخ على ثنائية (الموضوع / الهدف) إذ يتخذ التاريخ من أحوال المشاهير وأصحاب السلطة موضوعاً له، فيُعنى بأخبار الملوك والقادة الذين يمثلون السلطة السياسية والعسكرية، والأنبياء والحكماء الذين يمثلون سلطة الدين، في مقابل الهدف من هذا الرصد وهو العبرة منه، والاسترشاد به مستقبلًا، وهذا يجعلنا نطمئن إلى القول بأنَّ التاريخ تاريخ السلطة.
التاريخ الموازي :
حين ينشغل التاريخ بالفاتحين والمحتلين والملوك والحكام ، فتقطر مجلداته دمًا وتتناثر على صفحاته أشلاء القتلى وجماجم المنشقين، تنشأ حاجة ماسة لتاريخ موازٍ، يُعنى بالمعرفة وأهلها فيرصد أحوال العلماء والأدباء والشعراء، ولعلَّ وجود أسفارٍ تُعنى بالأدباء واللغويين والأطباء تمثل استشعار المؤرخين لهذه الثغرة في التأليف التاريخي لكنَّ هذه الأسفار، كانت أقرب إلى المعجمات يغلب عليها الاستقصاء والفهرسة مع نتفٍ عن حيوات الأعلام موضع الرصد، ولا يسعها أن تكون نواة لتاريخ مقاوم لتاريخ السلطة.
لم يجد التاريخ المقاوم نافذة يطل منها على تاريخٍ موازٍ لتاريخ السلطة كالتي وجدها في الرواية التاريخية أو المتخيل التاريخي – على حدِّ تعبير عبد الله إبراهيم– حيث يُعنى النص الروائي باليومي والمهمل والهامشي من الأحداث في التاريخ المؤسَسي فيجعله مركزًا تدور حوله أحداث الحكاية، لكنَّها ((تنقطع عن وظيفتها التوثيقية إلى وظيفة جمالية رمزية، فالتخيل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يقدرها ولا يروّج لها)) [التخييل التاريخي: 5]. لا يصدق هذا التوصيف بدقة على روايات يوسف زيدان إذ يعمد الأخير إلى صناعة تاريخ يتخذ من الرواية شكلًا فنيًا له، يتقصَّى فيه تاريخ المعرفة وأصحابها، في سرد غير منقطع عن الحدث التاريخي، بل يتخذ من حدث تاريخي ما نواة يؤسس عليها تفاصيل حكايته، وهذا فعل تذكر ثانٍ إذ يستدعيه من التاريخ الذي استدعي قبلًا من ذاكرة أعم. ففي روايته (الحاكم، جنون ابن الهيثم) يلتقط حدثًا تاريخيًا نقله القفطي في كتابه ( أخبار العلماء بأخبار الحكماء) هذا بعض نصُّه : ((الحسن بن الهيثم... نُقل عنه أنَّه قال: لو كنتُ بمصر لعملتُ في نيلها عملاً يحصل بِهِ النفع فِي كل حالة من حالاته من زيادة ونقص... فازداد الحاكم إليه شوقًا وسيَّر إليه سرًا جملة من مال وأرغبه في الحضور فسافر نحو مصر ولما وصلها خرج الحاكم للقائه ... وطالبه بما وعد بِهِ من أمر النيل فسار... إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة... تحقق أن الذي يقصده ليس بممكن... فوجد أمره لا يمشي على موافقة مراده وتحقق الخطأ عمَّا وعد بِهِ وعاد خجلًا منخذلًا واعتذر بما قبِلَ الحاكم ظاهره ووافقه عليه ثُمَّ أن الحاكم ولَّاه بعض الدواوين فتولاها رهبة لا رغبة وتحقق الغلط في الولاية فإنَّ الحاكم كان كثير الاستحالة مريقًا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب من خيال يتخيله فأجال فكرته في أمر يتخلص بِه فلم يجد طريقًا إلى ذلك إلَّا إظهار الجنون والخبال فاعتمد ذلك، وشاع فأحيط على موجوداته بيد الحاكم ونوّابه وجعل برسمه من يخدمه... وقيّد وترك في موضع من منزله ولم يزل على ذلك إلى أن تحقق وفاة الحاكم وبعد ذلك بيسير أظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه )) [المصدر : 114 - 116].
يستدعي يوسف زيدان هذا النص من التاريخ ليكون حكاية ضمن حكاية إطارية أشمل بأسلوب فني رفيع يجمع بين المتعة والفائدة المعرفية، إنَّ التداخل بين الحكايتين الثانوية والإطارية يشعر بثنوية التاريخ، التي ألمح لها الروائي من العتبة الأولى المتمثلة بالعنوان المزدوج: العنوان الرئيس (الحاكم) الذي يصطف مع التاريخ المؤسسي، والعنوان الثانوي (جنون ابن الهيثم) المساوق للتاريخ الموازي، لم يتخذ زيدان من جنون ابن الهيثم مدخلًا يلج منه عوالم الخيال، بل جعله كناية عن محبس اختياري توسله ابن الهيثم ليفرَّ من وظيفة ديوانية فرضها عليه الحاكم، فأظهر الخبال لينجو، فما كان من الحاكم إلا أن يضعه تحت الإقامة الجبرية بحجة الحفاظ عليه. العلاقة بين الحاكم وابن الهيثم انعكاس رمزي للعلاقة بين تاريخ السلطة الذي يحبس التاريخ الموازي .
ولا يفارق هذا المعنى روايته المهمة (فردقان، اعتقال الشيخ الرئيس) التي تتخذ من حكاية ابن سينا (الشيخ الرئيس) نواة يؤسس عليها بناءه السردي في هذا العمل، إذ ترد سيرة ابن سينا في كتاب (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) على جزأين: الأول سيرة ذاتية يمليها الشيخ الرئيس على أحد تلاميذه، والآخر يتمم فيه أبو عبيد الجوزجاني أحد أصحابه هذه السيرة حتى وفاة الشيخ الرئيس، وهذه التقاطات منهما: (( أبي كَانَ رجلاً من أهل بَلْخ انتقل منها إلى بخارى. وتزوج أمي منها... ثُمَّ جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي وكان يدَّعي الفلسفة وأنزله إلى دارنا رجاء تعلمي منه... وتعجب مني كل العجب وحذَّر والدي من شغلي بغير العلم وكان أي مسألة قالها أتصورها خيرًا منه ... ثُمَّ أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حَتَّى أحكمت علم المنطق... وكلَّما كنتُ أتحيَّر في مسألة... ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حَتَّى فتح لي المنغلق منه ويسَّر المتعسر وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي واشتغل بالقراءة والكتابة فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليَّ قوتي ثُمَّ أرجع إلى القراءة ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسألة بعينها حَتَّى أن كثيرًا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام ولم أزل كذلك حَتَّى استحكم معي جميع العلوم... اتفق معرفة شمس الدولة وإحضاره مجلسه بسبب قولنج كان قد أصابه وعالجه حَتَّى شفاه الله تعالى وفاز من ذلك المجلس بخُلَع كثيرة وصار من ندماء الأمير ... ثُمَّ سألوه تقلد الوزارة فتقلدها ... ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبته علاء الدولة فأنكر عليهِ ذلك وحثَّ في طلبه فدلَّ عليهِ بعض أعدائه فأخذوه وأدوه إلى قلعة يقال لها فردجان وبقي فيها أربعة أشهر ثُمَّ قصد علاء الدولة همذان وأخذها وانهزم تاج الملك ومر إلى تلك القلعة بعينها ثُمَّ رجع علاء الدولة... إلى همذان وحملوا معهم الشيخ إلى همذان ونزل في دار العلوي واشتغل هناك بتصنيف المنطق من كتاب الشفاء وكان قد صنف بالقلعة. كتاب الهداية ورسالة حي بن يقظان. وكتاب القولنج )). [المصدر: 268 - 277]
فردجان أو فردقان قلعة احتُجز فيها ابن سينا، إقامة فرضها عليه تاج الملك حاكم همذان، جعلها زيدان عنوانًا رئيسًا لهذه الرواية في مقابل العنوان الثانوي (اعتقال الشيخ الرئيس) في ثنائية ضدية تحيل على الحاكم الحابس للمحكوم ومن ثمَّ على العلاقة بين التاريخ المؤسَسي والتاريخ الموازي. ولو لم يوثِّق ابن سينا سيرته بنفسه لَمَا وقعنا على هذه التفاصيل الملهمة من سيرته عند القفطي وسواه، فطفق زيدان يملأ فراغات هذه السيرة، انظر كيف يصوِّر لحظة دخول الشيخ الرئيس معتقله في قلعة فردقان، لحظة سكت عنها تاريخ الحاكم: ((جاءوا جميعًا فوق أحصنة إلَّا المعتقل الجليل المهان (ابن سينا) الذي جاء راكبًا بغلة هرمة تنوء بحمله هو والمخلاة التي خلفه، جاء مفكوك العمامة، مكشوف الرأس، كسيرَ النفس، كسيف النظرات، خَجلًا من هيأته، ومن السلسلة الصدئة المقيدة لقدميه وكفيه)). [الرواية :13]
ماذا لو اتخذنا من تاريخ زيدان الموازي منهجًا، فنغادر تاريخ القتلة والملوك والسلاطين في كتاب التاريخ المدرسي إلى تاريخ العلم والعلماء، تاريخ يحتفي بسيرة المعارف والعلوم فنعيد وسمَ العصور التاريخية في ضوئه، فيكون مثلًا – أقول: مثلًا- عصر ما قبل الإسلام، عصر الشعر والكهانة، وعصر صدر الإسلام، عصر القرآن والسنة، والعصر الأموي، عصر الشعر والخطابة والعصر العباسي عصر الترجمة والتأليف ؟!!