بعد ان أصبح تهجين الانسان والآلة امراً واقعا، كيف سيكون وضع الانسان في المستقبل؟ هل"وجوده ضروري"أم"زائد عن الحاجة"؟ وإن كان"الخلاص"من المعاناة الناجمة عن الأمراض والآلام من منظور الذكاء الاصطناعي"ممكنة"فهل نحن إزاء حلول يوتوبية أم تكنولوجية؟ وإن كانت تقنيات "النانو" الجزئية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والهندسة الوراثية تشكل بنى بديلة لحركة"الإناسة أو الانسانية"؛ فهل يمكن أن تصبح كائنات ما بعد الإنسانية- كائنات ما فوق بشرية من حيث البقاء على قيد الحياة بحيوات"جينية"متجدِّدة؟ وإن كنّا إزاء تقدّم تكنولوجي مستمر لا يتوقف؛ فهل سيحقق لنا التفرّد التكنولوجي-"الخلود السبراني"لتجاوز الحدود البيولوجية لأجسامنا وعقولنا، كأن نعيش لسنوات طويلة نسبيا أو أبعد من ذلك على وفق ما يسميه عالم الاجتماع وليم باينبريدج" بـ"الخلود السبراني"؟ وما يعنينا أكثر: هل سيتقاطع الذكاء البشري مع الذكاء الاصطناعي في المستقبل؟
يتوقع المفكر المستقبلي راي كروزوايل في كتابه(التفرد أقرب) بحلول عام 2040 ستتيح لنا روبوتات"النانو"التفاعل مع العوالم الافتراضية/ إيقاف الشيخوخة/ توسيع مداركنا الذهنية/ إستنساخ البشر لأنفسهم، وبذا سيتخطى الذكاء الاصطناعي قدرة الدماغ البشري بـ"تكنولوجيا الحياة" ويحقق التقدم بـ"التفرد التكنولوجي". ونرى بأن ما بعد الانسان مرحلة إنتقالية لتنشئة علاقات جديدة بين الانسان والآلة، لإنتاج كائنات جديدة أيضا محميّة بجدار ناري ذي مزايا أمنية مدمجة مضادة للفيروسات.ولكن إنجازات ما بعد الانسان - تبقى معرّضة للخطر، وذلك بسبب هيمنة مفهومية ما بعد الانسان، ونعني به – ما يتجاوز طاقات الانسان نفسه من قدرات ذهنية وعقلية، لهذا ينبغي الانتباه الى خطورة دمج الانسان بالآلة، وما يتعلّق منها بإشكالية الطبيعة المركّبة بـ"خلود الانسان"وتفوّق الآلة عليه، وذلك لمحدودية قدرته على قهر الطبيعة، وفي هذه الحال كيف يمكن التوفيق بينهما؟ لقد تنبّه المفكر الالماني أولريش بيك الى أن"مجتمع المخاطر"أصبح يحمل بذرة تطوره وهلاكه في آن، لأننا في"مجتمع المخاطر "نضطر أن نعيش في وضع مهدّد بالتناقضات السياسية والأزمات الأخلاقية، لهذا ينبغي ان نفكّر باللا مفكر به: كيف يمكن الخروج من مجتمع هذه المخاطر وتجاوز أزماته؟
يقول المفكر أولريش في كتابه "مجتمع المخاطر":"المجتمع العلمي التكنولوجي الذي طالما تميّز بالكمال، أطلعنا بطريقة ساخرة على الجانب المظلم للأمر، نحن لا نعرف ما لا نعرفه، ومن هنا بالضبط تنشأ الأخطار التي تهدّد البشرية". وذهب ليوتار الى أن"موت الآيديولوجيات"أو"الحكايات الكبرى"تشكل"نهاية الحداثة"بولادة مابعد الحداثة، التي مهّدت لـــ"مابعد الانسان"، أي"الانسان الجديد"أو"السيبورغ"لإرساء مشروع مابعد الإنسانية، بما في ذلك تقويض النزعة الإنسانية بواقعية الكوانتم، ونسبية الحقيقة، والواقع الفائق – بوصفها بنى معرفية إفتراضية متحوِّلة في سياق التطورات العلمية والتكنولوجية العابرة للإنسانية. ويرى الاكاديمي السويدي نيك بوستروم في كتابه"الذكاء الفائق:المسارات والمخاطر والاستراتيجيات"ثمة مخاطر وجودية ناجمة عن"ذكاء يتجاوز بدرجة كبيرة الأداء المعرفي للانسان في جميع مجالات الاهتمام"، قد تؤدي ؛ الى فناء البشرية بسبب الاستخدام الخاطئ للذكاء الاصطناعي كإستنساخ الجينات والعقول البشرية. كما نعد ظهور الريبورت من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ونعني بها: النانو - تكنولوجيا والبيو – تكنولوجيا، وهما من أهم مظاهر تجاوز الانسان الحالي، وعبور حاله الراهنة في الوجود، ولكن ليس بصيغة تجاوز الانسان عن طريق إرادته من منظور نيتشه، وانما على وفق مفهوم"التفرد التكنولوجي"أو"الذكاء الفائق".
إذن ما بعد الانسان- قائم على دمج التكنولوجيا بالجسم البشري أو بجسم الانسان، ودمج ما هو طبيعي بما هو صنعي من خلال الانتقال من إنسان عادي الى إنسان جديد (سيبورغ) نصفه آلة ونصفه الآخر بشر، ويمكن الاصطلاح على هذا التحوّل بـ"الإنسانية العابرة -"، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مّرة في دراسة عالم الجينات جوليان هكسلي في كتابه"ما بعد الإنسانية"الذي إستوحى أفكاره من"الانسان المتفوّق"لينتشه، أي الانسان الاستثنائي الذي لا يشعر بالألم والمعاناة، ويتجاوز القدرات البشرية، كما ظهر هذا المفهوم في مقال إيهاب حسن"برومثيوس: ثقافة ما بعد الانسانية"، للاستدلال على طور التشكل والتطور الدائم من خلال الاستنساخ أو التعديل الجيني بوصفه من أهم نتائج الثورة البيو- تكنولوجية. وتشكل ما بعد الانسانية قطيعة إبيستمولوجية مع مرحلة النزعة الانسانية –، والتحوّل نحو التكنو- إنسانية، والتأسيس لإنموذج بديل بحيوات تقنية – انسانية جديدة. ومن خلال ذلك يمكن أن نلحظ:
أولاً - إن الذكاء الاصطناعي دخل مرحلة التعلّم الفائق بوساطة المدخلات وما تنتجه من مخرجات مستوعبة لها متقدّمة عليها بصيغ إستباقية - إستشراقية -تنبؤية بما سيحدث في المستقبل، وذلك بدمج البنى العلمية في البيانات المعلوماتية، وبضمّها الخوارزميات في العصر الرقمي.
ثانيا –إن الذكاء الاصطناعي يتجه نحو دمج الجسم البشري والآلة التقنية باستخدام شرائح الكترونية، يمكن التحكّم بها، وامكانية توظيف الجينات البشرية بشرائح رقمية، وتحويل الافكار المتخيّلة الى مدونات بيانية جديدة.
اذن صار بإمكاننا أن نعيش التكنولوجيا الفائقة ما بعد الذكاء الاصطناعي والتفاعل معها، لأننا أزاء تكنولوجيا تتشكل بحيوات بشرية متحرِّكة بذكاء معرفي (بشري – تقني – رقمي)، وثمة آلات تقوم بالتفكير نيابة عن البشر أولا، وتقوم بالعمل نيابة عنهم ثانيا, ولكن ماذا يحدث ان صار الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاء من البشر؟. من المخاطر الحافة للذكاء الاصطناعي- التفّوق على البشر، حيث يستحيل على البشر التحكّم بـ"النانو"و"البيو"تكنولوجيا من دون ضوابط معرفية، وبداهة أن تتحوّل هذه التقانات الى مصدر تهديد بشري، لأن هيمنة واتساع التقانة الناجمة عن الذكاء الاصطناعي قد تؤدي الى البطالة والتدهور الاقتصادي والدمار البشري. اذن هل يمكن أنسنة الذكاء الاصطناعي، بما يجعله أكثر إستجابة لمعاناة الانسان وتمثلا لقيم الإناسة في التفكير البشري، وخاصة في كيفية إستخدام الأنظمة وآليات العمل في آداء المهام على وفق التعلّم الآلي أو التلقيم المعلوماتي، وإستخلاص المعرفة من البيانات المخزّنة؟ وإذا كان الذكاء الاصطناعي يتعلّم من البشر، فماذا يفعل البشر في حال تفوّق الذكاء الاصطناعي عليه؟ أي بمعنى آخر: هل سيعالج مشكلات الانسان من دون انحياز عرقي أو جنسي؟ لا نستطيع ان نخفي توجّسنا من تطور الذكاء الاصطناعي مستقبلا، فقد حذّر الاقتصادي بول رومر من المبالغة في تطور الذكاء الاصطناعي، وقال في مؤتمر (UBs) الآسيوي للاستثمار الذي عُقِد في هونغ كونغ من عام2023:"الثقة الجامحة السائدة حاليا بشأن المسار المستقبلي للذكاء الاصطناعي عالية جدا، وقد لا تتناسب مع التطورات المستقبلية الفعلية، وقد تؤدي الى خطأ فادح للغاية"، وذلك لانعدام"الموائمة في النمو الدائم على المدى الطويل بالاقتصاد العالمي ورفاه سكان العالم. وثمة مَن يرى بأن الذكاء الاصطناعي أكثر حيادية من ذكاء البشر، ولكن ينبغي أن ندرك بأنه سائر نحو إنتهاك خصوصية الانسان وسر وجوده، والتنبؤ بما يفكر به، وتحليل الموجات الكهرومعناطيسية لدماغه، بما في ذلك"الوسواس القهري". وقد يقوم الذكاء الاصطناعي في التعويض عن ذكاء الانسان بـ"ذكاء الآلة"لأنتاج حسابات وتوقعات أخرى، ولكن من دون تعليل لنتائجها السلبية.وإن كان تهجين الانسان والآلة ممكنا، فماذا لو كانت حيوية المهجّن أكثر هجانة منها؟ وان كان الذكاء الاصطناعي يُعنى بتحرير الانسان من جسمه، فما إشكالية ذلك في المستقبل؟ إن هذه التسأؤلات وغيرها؛ مثيرة لإشكاليات أخرى بحاجة الى أجوبة موازية لها.
ـــــــــــــــــــــ
*قاص وناقد عراقي
رئيس تحرير مجلة "الاديب الثقافية".