اخر الاخبار

يعيدنا الفنان (هاشم سمرجي) الذي غادرنا قبل أيام قليلة الى التفكير بصراع الأساليب، وجدل المواقف والإتجاهات والرؤى في التشكيل العراقي من خلال فحص هذه الحركية والسيرورات التاريخية التي عصفت بالأسماء والجماعات والخطاب نفسه. فمنذ معرضه الأول العام 1967 الى معرضه الأخير في لندن العام 2014 والموسوم (سرد تشكيلي) الذي شارك فيه (علاء بشير، وفيصل لعيبي) يعمل على تكريس التجربة والأثر المختلف، ويستهدف القصص والحكايا التي غادر موطنها الأصلي. وعبر هذا وذاك سجل مدونته الشخصية بعشرات المعارض الشخصية والجماعية في أوربا والعواصم العربية المختلفة الذي إستطاع من خلالها تكريس تجربته الفنية وإشتغالاته التي آمن بها منذ ستينات القرن الماضي حين إلتحق ب (جماعة الرؤيا الجديدة) مع زملاؤه من الفنانين (ضياء العزاوي، ورافع الناصري، واسماعيل فتاح الترك، ومحمد مهرالدين، وصالح الجميعي). إهتمت هذه الجماعة وسمرجي من بينها بالتقنية في العمل الفني مع ضرورة تحديثها بإستمرار، فضلاً عن الحرية الفنية غير المشروطة بموقف أُسلوبي موحد أو في الخطوط العامة، لإعتقادهم أن الفن ممارسة جمالية وموقف إزاء ما يحدث في العالم والمحيط الخارجي، عملية تجاوز مستمرة وإكتشاف دواخل الإنسان من خلال التعبير الجمالي، وهي محاولة بناء العالم من جديد، بحثاً عن هوية حضارية تتجاوز الهوية الذاتية والدعوة الى تقويض التراث، ليس من باب رفضه وتهشيمه، وإنما لبعثه من جديد وتثوير خصائصه الكامنة في بنيته الأساسية. وفي هذا رأوا إن عليهم تحدي التراث من أجل تحقيق تجاوزه، واضعين أنفسهم موضع المُطالب بالتغيير والتجاوز والإبداع، ممجدين في الوقت نفسه مفهوم الثورة، كونها تمثل تجاوزاً للقيم السلبية، وبلورة لروح المستقبل، بمعنى كونها صفات الإنسان الجديد.

إن تداخل الأجناس والأساليب في تجربته أمراً طبيعياً بفعل تأثير تخصصاته الدراسية، حيث درس الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعمل لأربع سنوات في التدريس، كما عمل في مجلة آفاق عربية قبل هجرته العام 1981 حين حصل على زمالة لدراسة فن الكرافيك من قبل مؤسسة كولبنكيان في لشبونة بالبرتغال، إنتقل بعدها الى إنكلترا ليعيش في مدينة لندن ويرحل فيها أيضاً. وبسبب هجرته المبكرة تعرف على منجزات الفنون الأوربية (الحداثة وما بعد الحداثة)، ولذلك يعد الفنان العراقي الوحيد الذي إنتقل من التعبيرية ورمزياتها الى الفن البصري، الذي يعد واحداً من إتجاهات ما بعد الحداثة الفنية، وفاعليته في عواصم العالم الكبرى (لندن وباريس، وواشنطن) وغيرها، ولكنه حاول إجتراح منهجه وأُسلوبة الخاص، ليعيد ترميم مادة ذاكرته المؤطرة بصور الموصل وبغداد المحلية وإستحضار التراث والمعطى الواقعي بشكل مختلف إنطلاقاً من إمكانية تأويل المشخصن، وتحويله الى نسق مجرد سواء كان ضمن هذا الفضاء أو ذاك، إذ إستطاع العودة الى (الخط العربي، والزخرفة الهندسية وما تنتجه من تشابكات تؤدي الى صورة متعددة)، فضلاً عن موضوعات الحياة التي مكتث في الذاكرة وأصبحت مادتها الرئيسة. وعلى الرغم من ركونه للسكينة والهدوء وإبتعاده عن الأضواء، إلاّ أنه متوقد المشاعر، وأصبح علامة من العلامات المهيمنة في التشكيل العراقي، بوصفه الفنان الوحيد الذي إتجه الى الفن البصري (optical art). عمل على المدرسة التعبيرية في الفن في فترات متعاقبة من حياته، إلاّ أن الفن البصري أخذه بعيداً من ذلك وكان الأكثر حضوراً في مجمل تجربته الفنية. ولعل هذا الإنفتاح له ما يبرره من خلال التعاطي مع القيم اللونية التي ترتد في جوهرها الى تماثلات وجودية أو معطىً حياتي إستطاع من خلاله تمثيل المتعارضات من خلال الجوهر أو الكينونات المتبدية في تأويل اللون والشكل على السواء. فقد ذهب الى (الأسود والأبيض) في أعماله الفنية التي تتخذ من التعبيرية التجريدية أو الرمزية أساساً في بنائها أو سطوحها التصويرية، أو تلك التي تقع في خانة (الفن البصري)، إذ أنه يتخذ من مقامات اللون ورمزيته أساساً في تلك الصياغات الفنية إنطلاقاً من الإستعارات الحياتية أو العالم الموضوعي التي يتمثلها ويجسدها من خلال العلاقة بين تلك القيم التي تشير الى (الليل والنهار، أو الخير والشر) وكل ما يتصل بهذه المفهومات. ومن أجل إستكمال تلك الرؤية فأنه يعمد في بعض الأحيان الى إدخال الضوء الأصفر أو البرتقالي عليهما لتتضح الصورة الرمزية في هذا التعبير المجازي الذي يحمله الأصفر بالإشارة الى أشعة الشمس أو الى اكتمال صورة النهار مع ظهور بعض الإنكسارات التي تعتريه، ولكنه يتدفق بقوة الى داخل تلك العتمة من أجل إضاءتها.

إن رحيل الفنان (هاشم سمرجي) يعني سقوط ورقة ناضجة أو غصن مثمر من شجرة التشكيل العراقي، ويؤكد مقولة (بودرياد)" إن الموت هو حدث بلا هدف.. لهذا علينا أن نجيد عملية إختفائنا حين يكون الموت" وهنا لا بد من الإشارة الى أن عملية الإختفاء مهما طالت فلا مفر من تلك القدرية التي تحيط بوجودنا، ولكن حضور الأثر سيقابل غياب الجسد وتظل الصورة والذكرى والأثر الذي تركه وما أنجزه يتردد دائماً على صفحات الكتب وقصاصات الباحثين، وفي زوايا قاعات العرض وقراءة أسمه المنقوش على صخرة الخلود بإستمرار.