اخر الاخبار

من مواردِ الشعر القديم؛ أن يقفَ الشاعرُ على شأنٍ من شؤون بيته، ويجعلَ منه أثرًا يُروى، وتحتفي به كتبُ الأدب بالذكر والإشادة؛ من ذلك ما كان من عمرو بن شأْس الأسديّ في أمر ابنه وامرأته !  كان عمرو بنُ شأْس الأسديّ شاعرًا قديمًا ؛ وُلد في الجاهليّة، وعاش فيها حِقبةً، وقال الشعر، ثمّ أدرك الإسلام فأسلم، وكان في جُند القادسيّة، وقد صوّر بعض وقائعها في شعره. وكانت وفاته في الثلث الأوّل من القرن الهجريّ الأوّل.  جعله ابنُ سلّام في الطبقة العاشرة من طبقات الجاهليين، وقال عنه:" أكثرُ أهلِ طبقته شعرًا . وكان ذا قدْر وشرَف ومنزلة في قومه"؛ غيرَ أنّ ديوانه الذي صنعه أبو سعيد السُّكري  المتوفَّى سنة  275 ه  ضاع في طيّ الزمان؛ فقام يحيى الجبوريّ، المتوفّى سنة 2019 م،  بجمع أشعاره المنثورة في كتب الأدب، وصنع له ديوانًا يضمّ ما بقي من شعره . كانت لعمروِ بنِ شأس  امرأةٌ من قومه يقال لها: أمُّ حسّان، وكان له ولدٌ أسودُ، اسمه عِرار، من أَمَةٍ سوداء كانت له، وكانت امرأتُه، أمُّ حسّان،  تشنأُ ابنَه عِرارًا، وتقع فيه، وتسعى في مساءته، وتُريد أن تبغّضَه إلى أبيه ! وكان عِرار، على سواده،  شديدَ الشكيمة، قويَّ النفس، فصيحَ اللسان، ذا مكانةٍ عند أبيه. فلمّا أكثرت أمُّ حسّان في عِرار، وغَلَت في قالتِها؛ قال الشيخُ ابنُ شأْس، وقد علت به السنُّ، قصيدةً عامرةً، أدار فيها الكلام على جملةٍ من شؤونه؛ ثمّ وقف، من بعد، عند امرأته وابنه في مورد جليل؛ عرف القدماءُ قدره فرووه في كتبهم؛ إذ رواه ابن سلّام في طبقاته، واختاره أبو تمّام في حماسته، وألمّ به الجاحظ في رسائله، ولم يُخلِ أبو عليّ القاليّ أماليَه منه، وجعله صاحبُ الأغاني في صدر كلامه على الشاعر، ودارت أبياتٌ منه في كتب أخرى على مقام التمثّل والاستحسان! يقول عمروُ بنُ شأْس في مورده الجليل؛ وأنا أنقله عن طبقات ابن سلّام:

أرادتْ عِـــــــرارًا بالــــــهَوانِ ومــــــــن يُرِدْ ...

عِــــــرارًا ، لَعَمْـــري ، بالــــهوانِ فـــقد ظَــلَمْ

وإنَّ عِــــرَارًا إن يكُــــنْ غيـــرَ واضـــحٍ ...

فإنّـــي أُحِـــبُّ الجَـــونَ ذا المَنْكِـــبِ العَمَــمْ

وإنَّ عِـــــرارًا إن يكُــــــــنْ ذا شـــكيــــــمةٍ ...

تـلقّيتِـــــها منـــــــــه ، فمــــــــــا أمــــلِـكُ الشِّــــــــــيَــمْ

فإن كنتِ منّي أو تُريدينَ صُحبَتي ...

فكــــــونــي لــــــه كالسَّـــــــمنِ رُبّتْ لــــه الأَدَمْ

وإلّا فســـيــري مثــــلَ مــــا سـارَ راكِبٌ ...

تعجّـــــلَ خِمسًــــــا ليــــس فــــــي ســـــيره أَمَــــمْ

أراد أن ينصح لها، وأن يُريها عاقبةَ ما تفعل، وأنّ في مساءتها عِرارًا مساءةً له؛ فقال إنّ من الظلم أن يُرادَ عِرارٌ بالهوان، وأن يُؤذى؛ فهو إن لم يكن أبيضَ واضحًا؛ فإنّه قويٌّ شديدٌ، وثيقُ البناء، وإنّي أحبّه لقوّته ووثاقته، وإذا كان يلقاكِ بالشدّة فتلك شيمتُه التي لا أملك لها تبديلًا؛ فإن كنتِ تُريدين  صحبتي فكوني له كالأديم، وهو الجلد المدبوغ تُتّخذُ منه الزِّقاقُ والأوعيةُ، الذي دُهِنَ  بالرُّبّ، وهو خلاصةُ التمر وعصارتُه، وأُصلحَ حتّى  يحفظَ السَّمنَ ويدفعَ عنه  الفساد، ويكون ذلك أطيبَ له؛ يقول لها : دعي المشاقّة، واجعلي عِرارًا بموضع الرعاية منك! وإلّا فابعدي عنّي، وسيري، مسرعةً،  كراكبٍ منع أبلَه عن الورد أربعةَ أيّام فلمّا كان اليومُ الخامس أسرع بها نحو الماء، غيرَ مبطئ،  لا يلوي على شيء!  لكنّها ظلّت على مساءتها؛ تلقى عِرارًا بما يؤذي؛ فأحكم الشاعرُ أمره، وأخلى سبيلها ؛ فلمّا بانت تبعتها نفسُه وندم، وقال :

ألمْ تعلمـــي يا أمَّ حسّــــانَ أنّنــــي ...

إذا عــبـــــرةٌ نهْنــــــهْتُــــهــــــا فتــــخــــلَّتِ

رجعتُ إلى صدْرٍ كجرّةِ حَنتَمٍ ...

إذا قُرعتْ صِفْرًا من الماءِ صَلّتِ

غيرَ أنّ شعرَ الشاعر وأخبارَه؛ كلاهما يسكتُ عن مآل الحال بين الشاعر وامرأته أمِّ حسّان بعد المفارقة؛ لكنّ الأخبار لا تسكت عن عِرار حتّى تُثبت رأي أبيه فيه، وأنّه كان على صواب منه؛ فتقول: إنّ عِرارًا عُرف بالفصاحة، وحسنِ البيان، ويقظةِ الفؤاد، وأنّ الكوفة عرفت ذلك منه؛ فلمّا كان الحجّاج، وكان نصره على ابن الأشعث أراد رجلًا لَقِنًا يؤدّي خبرَ النصر بتمامه إلى الخليفة عبدِ الملك ؛ فدُلَّ على عِرار ؛ فبعث به إلى الشام؛ فاقتحمته عينُ عبد الملك ، إذ رآه،  لسواده ودَمامةِ وجهه؛ فلمّا تكلّم ملأ سمعَه صوابًا ، فكان لا يسألُه عن أمر حتّى يُجيبَ أتمَّ جوابٍ بأفصح لفظ؛ فتمثّل عبدُ الملك ، عند ذلك ، منشدًا:

أرادتْ عِرارًا بالهوانِ ومــــــن يُردْ ...

عِرارًا ، لعمري ، بالهوان فقد ظَلَمْ

وإنّ عِرارًا إن يكــــــُن غيرَ واضحٍ ...

فإنّي أُحبُّ الجَونَ ذا المَنْكِبِ العَمَمْ

فقال له عِرارٌ : أتعرفني ؟ قال : لا ، فقال : أنا عِرار ! فسُرَّ عبد الملك وقال : لقد صدق ظنُّ أبيكَ فيك ...!

تلك صفحة من صفحات  الشعر القديم صوّرت جانبًا من حياة الشاعر في بيته وما يكتنفها من نوازع ...