مازَ أرسطو بين الذاكرة والتذكر، فالذاكرة مستودع الأحداث والتجارب الذاتية والجمعية، أمَّا التذكر فهو استدعاء لهذه الذكريات، فيسمح فعل التذكر بإحضار الماضي إلى الحاضر [الذاكرة التاريخ النسيان :51].
هذا الميز يوقظ أسئلة عن طبيعة فعل التذكر وما يحفُّه من محاذير، أ يستعيدُ الأحداث والذكريات كما حدثت بالفعل أم يتدخل الخيال فيعبث بها أم ينال منها النسيان فيمحو بعضها ؟ ينتصر بول ريكور لذاكرة عادلة متوازنة تتخفف من الأحداث المأساوية بالمحو والنسيان، على حين ترى روجين روبان في كتابها (الذاكرة المشبعة) أنَّ المحوَ المتعمد للذاكرة خيانة لها. [الذاكرة في الفلسفة والأدب :117]، ولَمَّا كان التاريخ يُكتب بيد المنتصر، والذاكرة يحرسها الأقوى، فقد استقر في الأدبيات النسوية أنَّ السلطة الأبوية عمدت إلى صناعة إعلام يهيمن فيه الخطاب الذكوري الذي يتغنى ببطولات الرجل و أمجاده مشفوعًا بذم الأنثى، ثم أخذت هذه المنظومة الفكرية الاقصائية تتنامى حتى أوصلت الأنثى إلى الحرملك ، وقد وظّف هذا الفكر جُلَّ طاقته لحبسها في هذا الإطار بعدوان منظم، وظَّف الشعر والقصص والحكايات الشعبية والأمثال والأقوال المأثورة ...
في ضوء هذا النظر كانت المرأة تقبع في أقصى هامش الذاكرة المتخمة بالفحولة: تاريخًا وثقافة، ولغة، فالذاكرة فحل. وما إن كسرت المرأة أغلب القيود والأغلال التي حالت دون دخولها عوالم المعرفة والثقافة، إذ طفقت تكتب عن نفسها وتسطر حكاياتها ،يبادرنا حينئذٍ سؤال ملح : كيف للمرأة أن تكتب في لغة هي خارجها ؟ سؤال ألحَّ على مي زيادة من قبل فقالت: (كيف للمرأة أن تتكلم وهي غير موجودة في الكلام ؟) ، ثم يتناسل من هذا السؤال أسئلة أخرى: أ للمرأة ذاكرة خاصة تكتب بها أم تكتب بذاكرة الرجل نفسها ؟ و إن كان الأمر كذلك فهل ما تكتبه أدب نسوي حقاً ؟ أتتمكن المرأة من خلق لغة خاصة وذاكرة خاصة بها بعد أن نفيت خارجهما أم تضطر إلى الكتابة بالذاكرة الأولى فتكرر نفي ذاتها بيدها؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة سنستدعي ثنائية (الذاكرة / التذكر) إذ يستحيل أن تنشئ المرأة الكاتبة ذاكرة نسوية خالصة؛ لذا ستغادر (الذاكرة = التاريخ) وتتجه صوب التذكر المتلفع بالخيال، فتستدعي من الذاكرة أحداثًا بسيناريو انثوي، يكون الانزياح الأسطوري أوضح معالمه، فتزعم نوال سعداوي في روايتها الحب في زمن النفط أنَّ أبا الهول كان أمَّ الهول و جرى تحويله إلى إله ذكر، وإليكَ جانبًا من حوار يوثق ذلك :
((- لا شيء يثير الاشتباه إلا رأس المومياء هذي! أتعرف رأس مَن هذه ؟.
- رأس أمِّ الهول.
- أم الهول ؟ لم نسمع بها من قبل ! أهي زوج أبي الهول ؟
- تغيرت الميم إلى باء ... وأمر الإله الجديد بإزالة النهدين من التمثال، وإضافة اللحية )) [الرواية: 60 - 61] . ومثله اخناتون (( كان تمثال النصر من حجر السيج، تعلوه طبقة سوداء من غبار النفط ، يبدو وجهه قبل الغسل أسود تطفو عليه بقع الزيت ... بعدَ الغسيل أصبح الوجه أبيض اللون ... وصدره عريض يعلوه نهدان بارزان كصدر الإله اخناتون )) [ نفسه:42 - 43]. بل إنَّ إلهة الموت (سخمت) حولتها أيادٍ عبثت بالذاكرة إلى إله مذكر اسمه (عزرائيل). [نفسه : 30]
مع إشارة متكررة إلى أن الطوفان محا آثار ذاك الانقلاب فضاع التاريخ قبله، واختفت آثار الجريمة ضد الإلهة الأم، في محاولة تذكر ذات طابع أنثوي تبنت القلب الاسطوري وإعادة انتاج الذاكرة الأبوية في قالب أنثوي، لتكشف عن خطر التذكر على سلطة الذاكرة .
وهناك محاولات أخرى أكثر تميزًا – في نظري - لكاتبة يكشف منجزها الأدبي عن مشروع منظم لتأنيث الذاكرة من خلال إعادة إنتاج الأساطير والحكايات بسيناريو أنثوي ،وكأنَّها تتمثل مقولة الغذامي (( ما لم تتأنث الذاكرة فإن اللغة ستظل رجلاً ،ولن تجد المرأة مكانًا في خزانة اللغة المكتنزة بالفحولة )). [المرأة واللغة: 1/ 208] إنَّها الكاتبة العراقية المهمة لطفية الدليمي التي حرصت في معظم أعمالها على زرع لافتات محرجة للتاريخ المذكر ، ابتداء من دراستها (جدل الأنوثة، نفي الأنثى في التاريخ) وصولًا إلى مجمل مقالاتها الصريحة وأعمالها الأدبية في هذا الشأن، وسألتقط من بين هذه الأعمال المهمة قصتها (محو النساء) التي استعادت فيها قصة (زليخا ويوسف) ،لترويها على النحو الآتي: (( وقفتُ أمام المرآة الكبيرة في خزانة ثيابي فلم أشاهد شيئًا ولم ينعكس فيها سوى جدار و لوحة امرأة نصف عارية تمثل (زليخا) عاشقة يوسف رسمها لي طالب فنون معدم بثمن قميص وسروال، حدقت بالصورة فلبثت (زليخا) في ذهول شهوتها ترمق بابًا مواربًا يوشك أن ينفتح ليبزغ منه الفتى يوسف، وجسدها يتألق في اشراقة الرغبة ورديًا وصافيًا ... رأيتها تنظر إليَّ حتى ظننتُ أنَّها تسخر مني وهي تراني بكل حواسها المتوفرة ،بينما تحولت أنا إلى عدم و فراغ ،لقد انتهيت وبقيت (زليخا) تتراءى في المرايا ،وتتكاثر في الهوى الصاخب وتصرخ في الأزمنة : (هَيْتَ لَك ...) )) .[موقع القصة العراقية]
يتحقق القلب الاسطوري في هذا المقطع بالآتي:
- صورة زليخا ،يكشف النص عن صورة زليخا في زهوها فهي المرأة المشتهاة دومًا تتراءى في المرايا تتكاثر في الهوى الصاخب ،وليست تلك التي تراود فتاها عن نفسه فيرفضها بشدة .
- يوسف وزليخا ،إنَّ الباب الموارب في لوحة زليخا الذي ترمقه بعينيها يبشر بقبيل مجيء يوسف المعشوق ،بخلاف يوسف في الميثولوجيا التوراتية و الأدبيات الإسلامية الذي فرَّ من غوايتها ،فهذا مقبل وذاك مدبر.
- ثنائية الستر / العري ،لوحة زليخة نصف العارية رسمها رجل لقاء ستر جسده بقميص وسروال ،وكأنَّ الدليمي تعيد القسمة من جديد فتجعل الستر الذي يرمز للقيد من حصة الرجل، والعري الدال على الحرية من حصة المرأة .
أمَّا في (أساطير ديكة الجن) فقد افتضحت أكاذيب ديكة الجن والأنس الذين يهدرون الدم لغسل دنس لم يحصل وليتقوا شرّ كارثة لم تقع . إذ يقتل ديك الجن محبوبته ليلاً وينتحب عليها نهاراً. [موقع القصة العراقية ]
لا يبعدُ ما استشعرته كليزار أنور في قصتها (همس الحجر) عن هذا المعنى، إذ تجلس بطلتها قبالة تمثال (النضيرة بنت الضيزن) التي كتبها التاريخ خائنة لأهلها و أرضها جرياً وراء شهوتها، فقط لأنَّها امرأة، إذ يُحكى في التاريخ المذكر أنَّ الأميرة ابنة الضيزن ملك الحضر وقعت في عشق سابور الأول الملك الساساني إبَّان محاصرته للحضر، وكانت تلاقيه سرًا، وأفصحت له ذات مرة عن التعويذة الحامية لمدينتها، فدخل المدينة وقتل أباها وأمر جنوده بربط غدائر النضيرة بذيل فرس جماح، ثم استركض الفرس فتقطعت أشلاءً [نشوة الطرب في تاريخ العرب: 180] . فكيف له أن يأمنَ على نفسه من امرأة خانت أباها من قبل ؟!! وإذ تجلس بطلة كليزار أنور قبالة تمثال النضيرة فتتراءى لها الأميرة بصورة لا تشبه التمثال في شيء، وحين سألتها قالت لها: (( هم نحتوني هكذا ولم أكن كذلك)). في محاولة صريحة لقلب ما ترسّب في الذاكرة عن هذه الشخصية . تكشف هذه النصوص المنتقاة عن أهمية التذكر كأسلوب مقاومة لسلطة الذاكرة المركزية التي لم تعترف اعترافاً كاملًا بالأنثى بوصفها كيانًا فاعلًا في كلِّ تفاصيل الحياة وملابساتها، فألقت بها إلى هامش قصي، آن أوان التمرد عليها.
وللتذكر رهانات أُخر ، انتظرونا ...