اخر الاخبار

الرواية كتبتها السيدة ناهدة جابر جاسم وتتضمن مذكراتها الشخصية وتجربتها المريرة خلال عملها كنصيرة مقاتلة في صفوف الأنصار، الجناح العسكري للحزب الشيوعي العراقي ضمن مناطق كوردستان العراق خلال فترة الحكم الصدامي ، ولم تكن النصيرة ( بهار ) وذلك هو أسمها ضمن فصائل الأنصار لوحدها في هذا العمل ، فقد رافقها في تلك الرحلة زوجها النصير سلام عبد أبراهيم (  أبو الطيب  ).

بمرور سريع تبدأ ناهدة روايتها عبر مرحلة طفولتها التي عاشت ايامها الحلوة في بيتها مع أهلها بالديوانية ، وتتطرق فيها الى بدايات الوعي وأحلام الطفولة ونمو الشخصية وتطور الادراك ، ضمن بيت تنتشر فيه الطيبة والمحبة والتفاهم  التي تلمسها من خلال والدها (جابر جاسم القزمري ) تاجر اللحوم والذي يعمل قصابا في سوق القصابين بالمدينة ، وهو من بين الشخصيات  المعروفة اجتماعيا  ضمن مجتمع المدينة ، وتتلمس ذلك الوداد والمحبة والاستقرار والانسجام  في التعامل الاسري ،وتتذكر حرص والدها على متابعتها دراسيا وزراعته الثقة في شخصيتها ، ومع بدايات ذلك الوعي تواجه انقلاب ٨شباط ١٩٦٣ ليكون مفصلا مهما من مفاصل رؤيتها للواقع والمستقبل ، ومفتاح الدخول في آتون العمل السياسي ، وما يزيد هذا الدخول من تطور القبض على أبن عمها (محمود) الذي اشترك مع مجموعة من الشباب عند قيامهم بسرقة طابعة من احد المدارس وطبع بيان باسم الحزب الشيوعي ضمن تلك الفترة القاتلة ، وينتهي بالحكم عليه لمدة ٢٠ عاماً في سجن الحلة ، وبإتقان دقيق تصف تلك الزيارات مع والدها الى السجن  .

تمكنت ناهدة جابر من صياغة الصورة الوصفية لتلك المرحلة بإتقان ، ورسمت ببساطتها رصد الظواهر الإنسانية وثقافة المجتمع في تلك الفترة ، والحوافز التي دفعتها للتمسك بمتابعتها مطالعة الكتب التي تبحث القواعد والاسس الفكرية والثقافية التي توسع مداركها ، والتي كان يوفرها لها صديق العائلة السائق الطيب ( مجيد حرز ) الذي يعمل على طريق بغداد – الديوانية ، واستعارتها الكتب التي تتحدث عن نضال الانسان وكفاحه ضد الظلم والاستعباد ،  وبعد هذا حصولها  على المنشورات السرية والكراسات التنظيمية  للحزب الشيوعي والتي تحصل عليها من ابن عمها ( حاكم )، لتدخل في دهاليز عالم السياسة مدفوعة بيقين وقناعة انها ستكون عنصرا من العناصر التي تساهم في رفع الظلم وتحرير المستعبدين وتوفر  الكرامة والخبز للفقراء ، وينمو ذلك التراكم المعرفي والشعور بالمسؤولية عندها  ، وكل ذلك بمساندة من الاب الذي كان يفتخر بها ، وما تتميز به ناهدة جابر تلك الجرأة التي اكتسبتها من ثقتها بنفسها والذي زرعها والدها ، وتوظف  تلك الثقة بقصة ارتباطها برفيق رحلتها ( سلام ) وما تحملته جراء هذا الارتباط في مجتمع فقير وشبه مغلق ويعيب على الفتاة ان تعشق أو تحب ، خصوصا وهي تواجه في بداية حياتها الزوجية محرقة الحرب التي تدور بين القوات العراقية والإيرانية ليتم استدعاء زوجها الى الالتحاق بالجيش .

بعد اعتقال من كانت ترتبط به حزبيا ارتباطا خيطيا (جميل مكط ) ، ازداد الامر تعقيدا ، فتملكها الخوف  والخشية من الاعتراف عليها وهي موظفة حديثة التعيين  ، ويزداد الامر تعقيدا حين تلد وليدها الأول في العام ١٩٨٢ ، ليتم استدعاء زوجها مرة أخرى لخدمة الاحتياط  في الجيش  ليعود اليها هاربا ،  ثم تتوسع صفحة الرعب والعذاب والقلق حين يتم إعدام شباب هربوا من الجيش في ساحات المدينة وامام الناس ،  وتعيش فترة المرارة والرعب بين قلقها على وضعها الحزبي وبين تنقل زوجها الهارب من الجيش بين البيوت .

وحسما للقلق الذي عاشته وزوجها ، وخشية من القبض عليهما واعدامهما ، وعيون السلطة التي تراقب وتحاصر  كل متحرك في كل المدن والمحلات والازقة والبيوت ، وبعد ان تم استدعاؤهما للتحقيق في دائرة الامن ، تم حسم امر التحاقهما بالثوار الشيوعيين في جبال كوردستان بمصاحبة رفيق من أهالي المدينة نفسها ، ومن بغداد الى الموصل الى الشيخان تحت حجج ومزاعم مختلفة ليجتازوا نقاط التفتيش ، وتبدأ رحلة غاية في الصعوبة والخطر والمعاناة  ، رحلة تبدأ معها حياة أخرى لم تكن بحساب فتاة جنوبية تعيش بترف وسعادة  وأحلام متواضعة لتنقلب الى جحيم ومعاناة من خلال العمل العسكري وسط مجموعة من الرجال ، وان تعتمد المسير ساعات طويلة وسط مزارع وتضاريس لم تشاهدها الا بالصور وفي الكتب المدرسية، وان تقتنع بوجبات بسيطة وفقيرة  من الطعام لم تك في مخيلتها ان تعيشها ، وعلى الرغم من كل هذا فقد بقيت قناعتها ثابتة من انها تؤدي واجبها السياسي والوطني، وانها جزء من صيرورة التغيير الإنساني لإكمال مسيرة الوطن المتحرر من الدكتاتورية والظلم والقسوة وسطوة أجهزة الامن والمخابرات ،  والمجتمع السعيد الذي يوفر الخبز والكرامة لكل الناس بما فيهم الفقراء .

ويبدأ حلم العمل ضمن صفوف الأنصار بملابس البيشمركة وحمل السلاح على الكتف، والبدء بتجربة إنسانية غريبة وفريدة في العمل العسكري ضد قوات نظامية تتكون من فيالق وفرق والوية مكتملة التسليح ومعززة بطائرات بأنواعها، وتنخرط ضمن تشكيلات الأنصار من رجال ونساء لا خبرة عسكرية لأغلبهم ، دافعهم تلك المساهمة الحالمة في التصدي للنظام الصدامي وقواته المسلحة  ، وبأفقر أنواع الأسلحة ، وتلك معادلة غير منصفة وغير مدروسة بعمق وبحكمة .

رحلة ناهدة ضمن الكفاح المسلح تشكل معاناة إنسانية ومرارة بطعم العلقم ، وتشكل أيضا اجهاضا لحلمها في النقاء الشيوعي وحكايات الرفاق والتلاحم والتفاني، ومابين المغارات والحفر التي تقيم فيها نهارا وزوجها معها خشية من الانكشاف او التنوير والقصف المدفعي ، وما يجيش في خاطرها واحلامها مع طفلها البكر الذي أودعته لوالدتها ، ومع الشوق والحرقة التي تطحن روحها بفراق وليدها الأول ، ووعورة الطريق واللغة التي لم تتمكن من معرفتها اول الامر ، وخلال تصفحي لروايتها التي تفصح بها عن الألم الدفين الذي تبوح به بين فترة وأخرى ،  حول بعض المواقف السلبية والامراض الدفينة التي تلمسها من بعض الرفاق ، وفي نظرات بعض الرفاق للفتيات العاملات ضمن العمل العسكري المسلح ، خلافا لما كانت تعتقده من مثالية وتفاني ، ولا تتردد بتشخيص تلك الحالات بجرأة وشجاعة فتذكرها مع بعض الأسماء التي اذاقوها المرارة  واربكوا مفاهيمها ، لكنها لا تنس مطلقا المواقف الإنسانية والرفاقية لعدد كبير من الرفاق ممن التقت بهم وعملت معهم .

وتعود لتصوغ لنا صورا غاية في المشاعر الإنسانية والشجاعة، في عملها بالتمريض وشجاعة المصابين من الرفاق، او في معاونتها في عمل الخبز او خياطة بدلات الرفاق، وتستذكر  مرارة نومها بعيدا عن زوجها، وعن واجباتها الليلية في الحراسة ، وتتعرض بالنقد الموضوعي  لأساليب التحقيق مع بعض الرفاق بطرق بعيدة عن اخلاق الشيوعيين ومبادئهم، وحياة بدائية تعوز فيها الفتاة أشياء ضرورية كثيرة لا تتوفر لها تلك معاناة تتجاوزها وتتخطاها  بالصمت والصبر، ما يعينها ويشد من أزرها وجود زوجها الرفيق أبو الطيب بالقرب منها في أغلب الأحيان ، ومعاناتها خلال فصل الشتاء والخريف ووجود الثلوج بشكل كثيف وكبير على الجبال التي تقيم بها تلك المجموعات، بالإضافة الى عدم توفر ما يقيهم من هذا البرد القاتل والقارص، ولا بنايات يمكن ان تحميهم من المطر والثلوج المتراكمة، ولا بتوفر مواد أولية كالأخشاب والنفط ومستلزمات التدفئة التي تخفف عنهم تلك المعاناة، ولا في وسائل مواصلات تسهل لهم الانتقال سوى عدد فقير من البغال .

صفحة من صفحات أيام ناهدة تمتلئ بالتحدي وتزيدها تمسكا بمحبة زوجها واخلاصا لقضيتها، وتروي تلك الأيام بما تخزنه ذاكرتها التي لم يتعبها المرض والمعاناة والخوف، ولا هزتها حالات الاندساس والتجسس التي تقوم بها بين فترة وأخرى أجهزة الامن والمخابرات، ولم تثنها حالات التسمم التي تقوم بها السلطة وعملاؤها، ولم تجعلها قذائف المدفعية وصوت الرصاص أن تتراجع، غير انها بقيت  تخشى صوت الطائرات السمتية التي تفاجئ الموجودين لتحصد ما تتمكن من تلك المجموعات ، وهي تحمل هذا الخوف والرعب معها حتى بعد ان استقرت بالدنمارك بعد تلك الرحلة الغريبة والعجيبة .

أسماء عديدة مرت عليها قسم منهم استشهدوا في تلك الروابي والأماكن القصية، تمكنوا من دفن عدد منهم، وقسم آخر انتقل ضمن من انتقلوا بعد ان انتهت تلك التجربة في دول اوربا ليموتوا في مقابرها الانيقة ، غير ان معاناتها المزدوجة والتي لا تتحملها امرأة، حين قررت ان تجهض حملها وهي في الشهر الرابع منه، وهي المصابة بالتدرن الرئوي الحاد (عصية كوخ)، فيتم أرسالها  الى ايران  لهذا الغرض، مع انعدام ابسط مستلزمات الحياة الصحية التي يرافقها القصف المدفعي يوميا على مواقعهم، والأكثر الما ان تقوم بعملية الإجهاض دون تخدير موضعي متصنعة الصبر والتجلد والتحمل، مذبوحة بآلام تقطع الاحشاء وتشل المفاصل ويصاحب ذلك أن يتم ذلك تحت جحيم القصف المدفعي الذي لا يتوقف ، ومن دون التوغل في تفاصيل تلك المذكرات الصريحة وتفاصيل حياة النصيرات والغرف البدائية الخانقة، ووسائل الحصول على الماء والحطب والواجبات اليومية واعداد الطعام ،تتعرض ضمن تلك المذكرات لقصص نصيرات وانصار تصور محنة الانسان ومعاناته وما تلحقهم من خسارات وانكسارات، وما يلفت النظر في مذكراتها ان الأسماء والأماكن بقيت راسخة  في ذهنها، ( زيوه – بهدينان- بشتاشان – العمادية – الزاب الأعلى – عباس رش – الدوشكا وغيرها).

تستحضر بهار لحظات الرعب التي دخلت في آتون جحيمها حين تم قصفهم بالسلاح الكيمياوي، وبحثها عن رفيق عمرها وإصابة العديد من الرفاق بذلك القصف الهمجي، وهول الحدث الذي بعثر تجمعاتهم واصابهم في الصميم، الموت الذي باغتهم وتمكن من ان يأخذ منهم رفاق قريبين للقلب  واصابة آخرين ، ومعاناة زوجها المصاب حد الاختناق والحريق الذي يمزق جسده ، والشظايا التي مزقت أجساد الرفاق دون ان تتوفر لهم ابسط مستلزمات العلاج ، وإنقاذ بعض منهم بالصدفة التي يفرضها المكان ، ومعاناة زوجها من ضيق التنفس واشتعال الجسد المكتوي بلسعات الكيمياوي ، وما يترك من اثر الحروق والتفاعلات التي تهيج الألم ، وهي تشاهده يتلوى امامها دون ان تتمكن ان توقف او تخفف الالام  ، سوى الكلمات التي لا تقتنع بها بالصبر والتحمل وزوال الألم ، وأخيرا الهروب الى المجهول .

الصورة التي تقدمها لنا الكاتبة ناهدة جاسم تشكل معاناة فتاة حالمة، تخوض تجربة خطيرة ومتميزة، تكتسب من خلالها خبرة ودراية وتعمق في معرفة الصواب وتشخيص الخلل ، الحياة ضمن بيئة منعزلة ومكان لا يعرفه أحد ،  ثم في عبورهم ضمن اعداد المهاجرين عبر الحدود التركية دون معرفة ما تخبئه الأيام القادمة لهما ، وهما الذين لا يملكون سوى ارواحهم ومستمسكات تثبت هويتهم اخفوها عن الرقيب ، تأخذها الذكريات الى عرض معاناتها بشجاعة نبيلة فلا تتعرض لأسماء حاولت الإساءة اليها ، تضحيتها بتعليمها الجامعي واستقرارها وبوليدها الذي تركته ، مواجهة خطر الموت من قبل القوات المعادية او هاجس الغدر من عناصر مدسوسة . 

وضمن مرحلة التوجه نحو شريط الحدود التركية مندسين ضمن مجاميع الاكراد الهاربين من جحيم القوات الصدامية، مخلفة ورائها جزء من عمرها وايامها بين الثوار، تودع المكان الى الابد فتخنقها العبرات والهموم ، ثلاث سنوات تعادل عمرها كله، تترك سلاحها  وبدلتها العسكرية وتختزن تلك الذكريات، تعيش مرحلة البقاء ضمن قرى تركية بدائية، تعيش تحت هاجس لجة الخوف  والترقب من انكشاف هويتها وتسليمها للسلطات العراقية، ثم التوجه نحو الحدود الإيرانية من تركيا الى معسكر( اوردكاه خوي زرعان )  وهي مصابة بفايروس السل الذي ينهكها، وتتوسع المعاناة في حملها في تلك الظروف ، ومنها الى موسكو ثم الدنمارك محطتها الأخيرة .

سلسلة من الذكريات اقرب منها الى الرواية، كانت خلالها صريحة وواضحة، وربما ستكون أول فتاة عراقية خاضت تلك التجربة وكتبتها بشجاعة ضمن رواية، وتلك الذكريات جزء مهم من حياة الأنصار بسلبياتها وايجابياتها، غير انها وثقت ايامها المعتمة وتجربتها المريرة وحجم معاناتها كإنسانة حالمة ، كانت تحمل حلمها وحبها سوية ، اقتنعت انها أدت ما عليها للوطن وللحزب ولزوجها الذي كان ولم يزل حبيبها ورفيق دربها.