اخر الاخبار

ثلاث صور. الصورتان أعلاه، يميناً: رسم على الجص قادم من قصر سنحاريب ملك الإمبراطورية الآشورية الحديثة في الفترة (705 - 681 ق.م)، هو من أقدم التمثيلات البصرية للقفة (المتحف البريطاني).

أعلاه يساراً: لعلها من أقدم الصورة الفوتوغرافية للعراق الحديث، وهي صور حملة وولف الأثرية عام (1884 و1885). الصورة من مدينة بغداد عام 1884. وفيها، قفة ربما في طور البناء وثلاثة رجال يتطلعون إليها. فوتوغراف فضي، القياس: الارتفاع 18.5 × العرض 23سم. محفوظ في قسم المجموعات النادرة والمخطوطات، مكتبة جامعة كورنيل للآثار. تصوير: هاينز، جون هنري (1849- 1910).

أدناه: قفة آشورية تنقل شحنة من حجر البناء. وهي في الغالب من زمن قصر سنحاريب (عن: ليونيل كاسون، السفن والملاحة البحرية في العالم القديم Lionel Casson, Ships and Seamanship in the Ancient World). هناك لوح مسماري من بابل، يعود تاريخه حسب المتخصصين بوسائط النقل القديمة إلى حوالي عام 1750 قبل الميلاد، وقد تم اكتشافه في أربعينيات القرن العشرين، ولكن لم تتم ترجمته إلا قبل بضع سنوات، يصف اللوح الطوفان. وفي ظني يخلط اللوح بين القفة والكلك أو أن البابليين صنعوا مركباً يجمع بين النوعين. في هذا اللوح، يشير الإله إنكي إلى رجل يُدعى أتراحاسيس بالكارثة القادمة ويقترح عليه بناء نوع من قارب لإنقاذ نفسه. يصف اللوح القارب بتفاصيل كبيرة، بما في ذلك بناؤه من القصب المربوط بالحبال، وإطاره الخشبي الداخلي، وغطاؤه المقاوم للماء من الأسفلت بسمك الإصبع، وهذه إشارة مرتبكة لشيء من القفة في رأينا. لكن المتخصصين يمضون إلى القول إن وصف اللوح يجعل قطره يبلغ حرفيًا 220 قدمًا (67 مترًا) وارتفاع يبلغ 20 قدمًا (6 أمتار) وهذا ليس حجم قفة دون شك. يعترف مترجم اللوح، إيرفينج فينكل Irving Finkel من المتحف البريطاني، بأن مثل هذه العمل الحرفي كان مستحيلا فعليًا ولا شك أن فيه بعض المبالغة الأسطورية. ولكنه كان مقتنعًا تمامًا بصحة فكرة وجود قارب كبير بما يكفي ليكون بمثابة نموذج للأسطورة. نموذج قادر على نقل الأسرّة والماشية، لدرجة أنه بنى نسخة مصغرة له، تم إطلاقها في عام 2014. كان للقارب أيضًا مستويين، مع مكان مناسب لـلكثير من الحيوانات الأليفة. وهناك الكثير من الصور الفوتوغرافية لسفينة الطوفان البابلية التي بناها إيرفينج فينكل. تسرب الماء لسفينة فينكل التي بلغ وزنها 35 طنًا، بسبب استخدام البيتومين (القير) منخفض الجودة المتوفر في ولاية كيرالا بالهند، حيث تم بناء القارب، بدلاً من المواد الأعلى جودة من العراق، لكنها كانت مستقرة وناجحة بخلاف ذلك. يخلص فينكل إلى أن مثل هذه المركبة ربما تم استخدامها بالفعل ويمكن أن توفر الأساس لأسطورة الطوفان. ونعتقد نحن بقوة أن الوصف في الجزء الثاني مما نقلناه أعلاه لا يشير إلى قفة بل إلى الكلك (جلج). ولدينا صور لنماذج بمستويين منه وإن لم تكن بالجودة والحجم الموصوفين.

نعرف القفة (الكفة) منذ رسوم الجداريات الآشورية التي تبرهن استخدم سكان بلاد الرافدين القفة للنقل النهري، وللأغراض العسكرية (لدينا باريلليف القفة آشورية في المتحف البريطاني يؤرَّخ له بعام 600 ق.م). جاء في كلام سرجون الأوّل الاكدي (حوالي عام 2350 ق.م) وفق أحد الترجمات: "أنا سرجون الأول، ملك قادر، ملك أكد أنا هو، حبلت بي أمي بغير مباشرة والدي لها، بينما كان عمي يعتو في البلاد، وقد حبلت بي في مدينة (أزوبيراني) الواقعة على شط الفرات والدتي أصبحت حاملا وولدتني بالعالم في محل مخفيّ ووضعتني في قفة حقيرة من الصفصاف المطليّ بالقير". ومدينة ازوبيراني تقع على نهر الفرات عند مصب نهر الخابور (ويسمى بنهر البليخ) الذي يصب في نهر الفرات شمال بلاد الرافدين. ويعتقد أنها مدينة الزعفران في منطقة صفران بولو التركية التابعة لولاية قره بوك. أما القير فيُعرف أيضا بأسماء الزفت أو الإزفلت أو الحُمًر او البيتومين، وهو مادة نفطية ذات لزوجة عالية وذات لون أسود، يستخرج من خلال عملية تقطير النفط الخام، وكان ينبع طبيعياً في شمال وغرب العراق، الموصل والأنبار وكركوك وغيرها. يعلن نص سرجون في المتحف البريطاني تشابهاً قوياً مع قصة ولادة النبي موسى، وولادة العذراء للسيد المسيح دون أن يباشرها رجل. ولد سرجون الأكدي سنة 2300 ق.م. وهو ملك رافديني أشوري، كانت أمه حسب النصوص السومرية كاهنة عليا من طبقة انتيم (البتول أو العذراء) في مدينة آزوفيرانو، حملت به ووضعته سراً وأخفته في سلة من الحلفاء مطلية بالقير، وغطته ورمته في الماء، فلم يغرقه النهر بل حمله إلى آكي سقّاء الماء (ساقي ملك كيش اور زبابا)، فانتشله آكي بدلوه، ورباه واتخذه ولداً وعينه بستانياً عنده، وبينما كان يعمل بستانياً أحبته الآلهة عشتار فتولى الملوكية. تشابه يؤكد أن أصول القصص التوراتية موصولة بقصص وأساطير بلاد الرافدين.

هذه السلة ـ القارب من الحلفاء المطلي بالقير في حكاية سرجون هي دون شك نوع من القفة. أستمر العراقيون في استخدام القفة حتى بداية القرن العشرين بل منتصفه، حيث كان يشيع استعمالها أكثر من الزوارق النهرية، خاصة لنقل الحاصلات الزراعية والبضائع التجارية من وإلى بغداد وضواحيها وذلك لسهولة حركتها وانسيابيتها. والقفة المعروفة مصنوعة من قصب البردي تتخللها حبال القنب لتثبيت مداراها وشكلها مقارب للسلة، تطلى بالقار لمنع تسرب الماء اليها. والقفة لغةً، الزبيل، والقفة قرعة يابسة، وقد جاء أن القفة: كهيئة القرعة، تتخذ من خوص ونحوه تجعل فيه المرأة قطنها، وأنشد ابن برى شاهداً على أن القفة هي القرعة اليابسة قول الراجز:

ربّ عجوز رأسها كالقفهْ

تمشي بخف معها هرشفهْ

وقد ورد لفظ القفة في بعض كتب اللغة بصيغة (القفعة).

ثمة أنوع عديدة وأحجام متنوعة من القفف: القفة الصغيرة تستخدم لصيد السمك بالشبكة ونادراً ما تستخدم للنقل النهريّ، ثم القفة الكبيرة التي كانت تحمل لوحة تسجيل في القرن العشرين وتستخدم لنقل الاشخاص أو البضائع، وتسمّى الـ (حصان) حيث تتسع الى حوالي ثلاثين راكباً وتستطيع حمل أكثر من طن. من الطريف بأنه في احتفالية ميلاد الملك فيصل الأول في بداية العشرينات من القرن الماضي، جرت مسابقة لأربعة أصناف تشمل سباق الزوارق، وسباق القفف، وسباق السباحة للشباب، وأخيراً سباق العوم على القرب الجلدية، بدءا من جسر مود ولمسافة 200-300 ياردة، حيث كانت لجنة التحكيم بانتظار المتسابقين على قارب كبير عند خط النهاية.  بعد الاحتلال البريطاني لبغداد صدرت قوانين لإجازة أصحاب الزوارق والقفف مقابل رسوم معينة ووضع ترقيم لها. وبالرغم من كثرة استعمال القفف للتنقل فقد تردّد الأهالي في استخدامها لاحقاً، بعد أن شاعت قصة غرق السيد ذيب مع القفة حيث لم يعثر إلا على عمامته طافية في الماء، ولهذه الحادثة أشارت الأبيات المغناة:  "جتي العمامه طايفه والروج يلعب بيها سيد ذيب راعيها ".

توقف استخدام القفة بعد إنشاء الجسور الحديثة وسهولة العبور بين جانبي بغداد، الرصافة والكرخ.