يتمركز الخطاب الشعري في مجموعة (عزلة المبني للمجهول) للشاعر (حسن عبد راضي) حول ثيمات ومضامين إنسانية وهموم تقترن بمأزومية الواقع، وسؤال الوجود على وفق تأمّلات واستبصارات يستشرف بها الأسى والزوال والقبح والحروب والرحيل والنضوب، وغياب التوق والجمال، ويمزج الشاعر في هذا الخوض العميق بين اليومي والمهمل ومظاهر التأزم وبين الأسى ومعنى الخراب والفقد في تناصّات ذكيّة مع المحمول (الميثولوجي) والوجودي. ويصبح الجمال والحب والتوق قيماً محاصرة بالخراب الذي يحكمه زوال مهيمن، لكنّ الشاعر (حسن عبد راضي) على الرغم من تقديمه لبانورامية الرثاء الشفيف يبقى يغنّي أساه على وفق تحليق عذب يسخّر له الصور الدالّة وجمال المفردات، والمشهدية التي رغم انطفائها فإنّها تشعل السؤال وتنهض بالتأمّل، وتعيد صياغة الأسئلة على شكل احتجاج وتحريض فهذا المحمول التراجيدي للتعبير يثير كوامن التلّقي ويحرّض على إعادة النظر إلى بؤر ومساحات الفقد، ومن المعذّر أن يمزج شاعر بين متّجهين متضادّين ومتنافرين، لذا فإنّه يضع لنفسه منظوراً غرائبياً تترشح عنه ما يمكن أن نسّميه بالمفارقة السوداء، والنظر إلى العالم من زاوية الزوال والتوّحش والعتمة، وخشية اغتيال الجمال والتوق ووحشية الفراق، وهيمنة الشحوب والرحيل، فما الذي يفعله الشاعر إزاء الخراب الذي يزحف على العالم مثل لعنة خفية؟ أو مثل قدر إغريقي؟ إنه زمن الأبطال التراجيديين الذين تسحقهم سرفات الحروب والفقد والغربة والعزلة والموت البطيء، ويمكن القول إنَّ نصوص المجموعة قد تشكّلت وصيغت بالتماهي والتنافذ مع الثنائيات المتضادة مثل (الحياة والموت) و(الوجود والعدم) و(الجمال والقبح) و(الحاضر والماضي) و(التوهج والزوال) و(الشك واليقين) و(السؤال والجواب) و(الحلم والكابوس) و(الارتكاس والأمل)، ولكنّ مأثرة الرؤية الشعرية عند (حسن عبد راضي) أنّه يراهن على الجمال الذي استحال إلى الحيازة على عذوبة كامنة في أعماق وتضاعيف النصوص التي لامست برقّة أوجاع الواقع بكل محمولاته التراجيديّة، والعتمة التي تحيط بكلّ شيء ولذا فإنه انقذ خطابه الشعري من الإنزلاق في السوداوية والتشاؤم وعتمة المشهد، فضلاً عن إيقاع متلاحم يصل حدّ القصيدة المدوّرة، وهذا التضاد بين اتّجاه الشكل وعمق المضمون هو الذي منح النصوص طاقة من الإيحاء والتأويل، وجدل انتج معاني جديدة ومبتكرة من خلال خلق منظومة جمالية ارتكزت على استراتيجيات الخلق المرتبط بآلية الإنزياحات الدلالية على مستوى اللغة والصورة، واقتناص المعنى المضمر، وتفعيل طاقة لغة الإشارة والإحالة والتجسيد. استطاع الشاعر أن يمزج بين فكرة الزوال وتمثلاّتها المجدبة وبين جمالية التصوير، وقد يذكّرنا هذا التوّجه بما يعرف باستاتيكا القبح أي جمالية تجسيد الخراب الذي اشتغل عليه (بيكاسو) في لوحة (جورنيكا) التي صوّرت الأشلاء والخراب في قرية مسالمة هي (جورنيكا) إزاء قصف (فرانكو) والنازيين، وظهرت اللّوحة على الرغم من القبح المضموني قطعة من الجمال الفني وامتلكت شحنة التحريض والإحتجاج لصدقها، ولأنها أطلقت السؤال الإحتجاجي الغاضب فتصوير الخراب بكلٍّ تأكيد يدعو إلى إعمال الفكر به وبتجلّياته المعتمة. لعلّ التحليل السيميائي للعنوان وأبعاده الدلالية تكشف عن مدلولات العزلة والمجهول وما تشكّله هذه الثنائية من إحالة إلى معنى الخراب والزوال والأسى الذي يسوّر كلّ التأمّلات ويهيمن على الواقع، وتكون العزلة والمجهول معادلاً رمزياً وصوريّاً للموت والخفوت والتلاشي الذي يسعى الشاعر فيه إلى تجسيد أبعاده وادانته ونفيه توقاً لتحقيق التناغم، وعذوبة اللّحظة المفقودة.