اخر الاخبار

احتلت الصداقة مرتبة عليَّة في سلَّم أبيقور للحاجات الموصلة للسعادة، إذ قال: (( من بين جميع الأشياء التي تمنحها الحكمة لتساعد المرء على عيش حياةٍ كاملة مليئة بالسعادة، يُعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمها على الاطلاق )). [عزاءات الفلسفة : 70]  وبالرغم من كون الصداقة تفضيلية عند أرسطو ، مقصورة على شخص واحد إلا أنَّه عدَّها من (( الحاجات الأشد ضرورة للحياة لأنَّه لا أحد يقبل أن يعيش بلا أصدقاء، ولو كان له مع ذلك كل الخيرات )). [كتاب الأخلاق، أرسطو : 2/ 219]. فلا غنى للإنسان عن محبة صديق فاضل يختاره ويأنس به. هنا يستيقظ سؤال عن طبيعة هذه العلاقة أهي حاجة إنسانية تطلبها كلُّ نفس أم فضيلة يختص بها الرجال ؟ لم تقف فلسفة الأخلاق على بحث طبيعة المحبة بين النساء، فلم تلتفت للصداقات النسوية، بل أبعدت المرأة عن فضيلة الصداقة، و وافقها التاريخ في هذا، فلم يحفظ لنا الموروث الإنساني حكاية واحدة لصداقة بين رجل وامرأة بعيداً عن الغريزة ، أو صداقة امرأة بامرأة أخرى، كالتي كانت بين رجلين، مثل كلكامش وأنكيدو،أو أخيل وبتروكلوس، أو شمس التبريزي وجلال الدين الرومي، أو يوليوس قيصر وأنتوني، أو انطونيو وبسانيو، وغيرهم . إنَّ هذه المفارقة – أعني الصداقة حاجة ماسة لبني الإنسان وحرمان المرأة منها – تستفز سؤالًا عن سببها.  ولربَّما نجد إجابة في العود إلى الانموذج الرجالي للصداقة عند افلاطون في محاورة ليسيس، إذ قُرنت الصداقة بالفضيلة والخير الأسمى، فيفترض افلاطون على لسان سقراط ثلاثة مبادئ لتصنيف الأصدقاء: الخير، والشر، وما ليس خيرًا ولا شرًّا ، فيكون الأنسان في ضوء هذه المبادئ: إمَّا خيِّرًا، أو شِريرًا، أو محايدًا. ولمَّا كان (( الرجل الشرير لا يمكنه الوصول لأيّ صداقة حقيقية أبدًا )) [المحاورات الكاملة : 492] فهذا يعني أنَّ الصداقة تتحقق بين الأخيار، لكنَّه يستدرك بأنَّ الصداقة لا تكون بين المتشابهين لذا يقدِّم لنا صورة وحيدة للصداقة تجمع بين الخيِّر والمحايد.

ولمَّا كانت المرأة رجلًا ناقصًا عند افلاطون، بل استعدادها الفطري للفضيلة أقل من استعداد الرجل، فمن الطبيعي أن تكون بعيدة عن الصداقة ولا سيَّما أنَّ الصداقة ممارسة محفوفة بالفضائل عند الفلاسفة بعامة . وباستدعاء أسباب الصداقة عند الفلاسفة: المنفعة، واللذَّة، والخير ، إذ لا تكون الصداقة حقيقية ما لم تتكئ على الخير والفضيلة. ومن ثمَّ فإنَّ صداقة المرأة للرجل تخرج عن نطاق الصداقة الحقيقية؛ لأنَّ اللذة ستكون وراءها فالمرأة عند الفيلسوف (( مرادفة للجسد والحياة الحسية، ولِما هو جزئي ... فهو يعتقد أنَّها تشدُّهُ إلى الأرض في الوقت الذي يريد فيه التحليق )) [افلاطون والمرأة : 7-8] ؛لذا لم تتخطَّ علاقة المرأة بالرجل حدود الجسد . أمَّا عن الصداقة بين امرأتين فمستبعدة بالاستحالة التي أقرها سقراط ، إذ لا صداقة بين شريّرَين .

هذا موقف الفلاسفة من صداقة المرأة، فما موقف النساء أنفسهن من هذا الأمر ؟

إنَّ التصاق صورة المرأة بالشر صار فكرًا مسلَّمًا به بعدما قال به أكثر الفلاسفة وحفروا له الركائز العقلية المقوِّية له ، ثم لبس هذا النظر لبوسًا دينيًا، ورسخ في العقل الجمعي لبني الإنسان فانصاعت المرأة لهذا الأمر ،فكانت المرأة للمرأة شرًّا، وصور استعداء بعضهن بعضًا كثيرة، حتى الأدبيات النسوية لم تجاوز هذا النظر، تقول سيمون دي بوفوار: (( إنَّ فهم النساء لبعضهن البعض و إحساسهن بأنفسهن ينبع من حالة انتمائهن لنسويتهن، غير أنَّهن يأخذن بمحاربة بعضهن البعض للسبب ذاته)) [المرأة واللغة:1/ 173 ].

و لا أحسب أنَّ هذا الصراع أصيل أو غريزي عند الأنثى بل هو إحساس طارئ غُذّي عمداً بثقافة ذكورية، ومرده إلى فوبيا الرجل من ثورة النساء لاستعادة مركزية سالفة، فأحكم صناعة عقدة استعداء الأنثى للأنثى واشغالهن ببعضهن عنه أو ربَّما به، وكان لهذا الاستعداء صور كثيرة، أهمها: الضرة، والعجوز والكنة، وزوجة الأب كحكاية سندريلا ، وقصة بياض الثلج للأخوين غريم ، مثلًا، والصاحبة التي تخطف زوج صويحبتها، بل العلاقة بين البنت وأمِّها لم تسلم من لوثة البغض، إذ تعود جذور هذا العداء في حياة الأنثى – بحسب فرويد - إلى مرحلة الطفولة لما وُسِم (بعقدة أليكترا) إذ تأخذ العلاقة بين البنت و أُمِها بالتحول من الحميمية إلى ضربٍ من المعاداة و الغيرة استئثاراً بالشخصية المركزية (الأب) ،وسميت بأليكترا نسبة لشخصية أليكترا في مسرحية لـ(سوفوكلس) حملت اسمها عنوانًا، وهي ابنة أجاممنون التي تآمرت مع أخيها على قتل أمِّها.

 ويتنامى استعداء الأنثى للأنثى من أجل الرجل بعد توظيف الفكر الأبوي لهذه الثيمة، ولاسيما في الموروث الحكائي العربي بخلق وظيفة الضرة التي خففت من صراع الذكورة الأنوثة، بخلق عدو للأنثى من جنسها، وجعلها أداة ترهيب و تخويف إذا ما حاولت الأنثى شق عصا الطاعة، وفي حكايات كيد النساء لبعضهن في ألف ليلة وليلة ما يعزز هذا ويؤكده .  فلا يكاد يستقيم مشروع صداقة بين امرأتين بعيدًا عن الحسد والتخوين ،وأول مَن سقط في شباك هذه النظرة الذكورية المنشأ المرأة الكاتبة في رحلتها لإعادة إنتاج الفكر والتاريخ والأدب بنَفس أنثوي فأمعنت في تشويه بنات جنسها اللائي نافسنها على رجلها، فكم من روائية وقاصة وثَّقت خيانة رفيقة لها !

لكنَّ الغريب في الأمر أنَّ صراع الأنثى للأنثى لا يتوقف عند الصراع لأجل الرجل فقط، بل يأخذ شكلاً لا يكاد يكون محدداً، ولا سيَّما بعد دخول النسوة عوالم العمل والمعرفة، إذ تتحول المنافسة في هذه العوالم إلى صراع يهيمن عليه التحاسد والخيانة لا المنافسة الطبيعية، وقد استوقفني ما سجَّلته (كليزار أنور) في قصتها (النصف بالنصف) التي تسرد فيها حكاية رفيقتين تشاطرتا كل شيء، الأولى قاصة، والثانية مترجمة، و حين اشتركتا في عمل إبداعي كتبته الأولى وترجمته الثانية بعد أن أنقصت أعداد الأشياء الموجودة في القصة إلى النصف بدعوى المشاركة، توثق كليزار هذهِ السرقة على لسان الراوية قائلة: (( وجدتُ أمرًا مثيرًا للعجب ...فكل الأرقام التي ذكرتها لأصف القصر من عدد الغرف والنوافذ والثريات وموائد الطعام والكراسي ...كلُّ شيء فيه قد تقلص إلى النصف بالضبط ... فهاتفتها في الحال ... ماذا فعلتِ بقصتي؟! سمعتُ صوت ضحكتها الهادئة، وردتْ بجدية : كيف تملكين هذا القصر الواسع لوحدك fifty-fifty )) [مجلة المسار، ع48/ 2000،ص9 ] . خرج هذا النص عن نمطية صراع الأنثى / الأنثى الذي يهدف في مجمله إلى استمالة الرجل والاستئثار به، ووثق تطور الصراع بينهن على نص ابداعي، وعلى الرغم من غياب الرجل عن هذا الصراع، إذ لم يكن موضع المنافسة إلا أنَّ الصراع مازال قائمًا بينهن . يشهد العالم تغيرًا كبيرًا ولاسيَّما العالم الافتراضي بفعل شيوع تطبيقات التواصل الاجتماعي، والتسابق لحيازة الأصدقاء، تغيّر يدفعنا دفعًا إلى إعادة تقييم علاقاتنا بعيدًا عن منطق الارتياب أو المنفعة، والسعي إلى إعادة صياغة علاقة المرأة بمحيطها الاجتماعي، رجالًا ونساء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اكاديمية وناقدة مثابرة من جامعة القادسية، تكتب لجريدتنا لأول مرة.