اخر الاخبار

كُتِب الكثير عن مفهوم الجمال لدى التوحيدي. بعضها ذهب بعيداً وخاض في تصورات التوحيدي الفكرية العامة، حتى كأنه نسي “موضوع الجمال” نفسه الذي يبدو لنا موضوعا موصولاَ، بالنسبة لقاريء معاصر، بالفنون الجميلة كالرسم والنحت والغناء، وقد لا يفهمه إلا عبر هذه الوصلة.

وهذه الوصلة المؤجلة الآن لا تعفي من العودة لأصول التوحيدي النظرية قبل تجلياته التشكيلية:

الإنسان عند التوحيدي يتجاذبه قطبا الجسد والنفس، وفيهما يتمظهر مستويان من الجمال: (الإمتاع والمؤانسة والهوامل والشوامل): الجمال الذي يكاد يطابق المظهر الفيزيقيّ، ثمّ الكمال الذي يكاد يطابق بعداً روحياً للجمال، الأول يوازي المستوى الجسديّ، لأنه مرتبط بالاستقصات والهيولات. وهاتان المفردتان مرتبطتان بـ(المظهر)، بـ (الصورة)، بـ (ما يُرى). فإن هيولى أو الهِيولا (Hyle) هي مفردة يونانية تعنى الأصل أو المادة، وهى واحدة في جميع الأشياء في الجماد والنبات والحيوان. وإنما تتباين الكائنات في الصور فقط. وأما الأُسْطُقُسّات فلفظ يوناني يمعنى الأصل أيضاً، ولكنه يشير إلى العناصر الأربعة الأصلية التي هي الماء والأرض والهواء والنار، وهذه الأسطقسات هي تجليات ومظاهر مرئية للأشياء. ونراها متحققة في الحيوانات والنباتات والمعادن.

نحن منذ بداية هذا التفكير منشغلون بـ (المرئي) وبـ (الصورة).

في الجمال أولاً:

يمضي تفكير التوحيدي مؤكداً أن تحقُق التناسُب بين عناصر موضوع ما، يُحقّق الجمال. والتناسُب هو مفهوم مفتاحي في الوعي اليونانيّ والعربي القديم (ويُقال له أيضاً النسبة الفضلى proportion idéale أو النسبة الذهبية proportion dorée)، ولذلك فالجمال المتحقق بهده الطريقة مادي محسوس، يُدرك بالحواس. ولما كان يرتبط بالطبيعة عن طريق الهيولات والاستقصات التي هي صور ومظاهر، فإنه يختلف باختلاف قدرتها على قبول التناسُب، وهي قدرة تتفاوت لارتباطها بالطبيعة من جهة الزمان والمكان اللذين يؤثّران في طبيعة الاستقصات والهيولات. الجمال الناتج عن ذلك نسبيّ، خاصة وإن إدراكه يتمّ عبر الحواسّ الجسدية، وهي مرتبطة بدورها بالطبيعة، كون الجسد مرتبط بالطبيعة، فهي متبدّلة زمانياً ومكانياً، ومختلفة بين إنسان إلى آخر، والنتيجة أن إدراك الجمال نسبيّ ومتغيّر من جهتين: الموضوع الجميل ومتلقّي الموضوع.

في الكمال ثانياً:

أما الكمال، فيوازي النفس (وهنا البعد الميتافيزيقي الذي لم يستطع التوحيدي المعتزليّ الهروب منه) وهو مرتبط بالعقل الأول (وهو العقل الفعّال) المرتبط بالواحد الأحد، فالكمال يستمدّ ضياءه من الله واجب الوجود الذي تفيض صفاته بالحُسن على غيرها، وإنما نالت الأشياء كلها الحُسْن والجمال والكمال من هذه الصفات وبها. ولذلك فإن الأشياء تتشوّق إلى كماله، وتعشق جماله، وتسعى للتشبّه به، والاتحاد معه، فهذا العالم السفليّ (وهو الأَرَضُونَ وَمَا تَحْتَهَا مقارنة بالعلويّ السماويّ) “مع تبدّله في كل حال، واستحالته في كل طرف ولمح، متقبّل لذلك العالم العلويّ، شوقاً إلى كماله، وعشقاً لجماله، وطلباً للتّشبه به، وتحقّقاً بكل ما أمكن من شكله” (المقابسات). كل خطأ في إدراك الكمال مصدره تدخّل الحواسّ في الحكم (وهي مشبوهة في الوعي الدينيّ)، ولذا لا نتوصل إلى إدراك الكمال وعشقه، إلا بعد تدريب العقل من خلال محبة الجمال الحسّي الذي يساعد العقل على الصعود والسّموّ المُهذّب. والنقطة الأخيرة تكشف عن علاقة بين الحسي والروحيّ (الجمال والكمال) لصالح الروحيّ، لأن التوحيدي يشير إلى أن معرفة المرء للكمال، تستوجب الدربة والمعرفة  لاستبعاد أثر الهيولات والاستقصات (المظاهر والصور الحسية)، فإن العقل إذا صفا، كان أقدر على إدراك الكمال. ولذلك فهو يدعو الإنسان إلى تقديم العقل على الحواس، وأن يستخدم كلاً منهما على كل حال في المكان المناسب، فلا يرفع الوضيع إلى محل الرفيع، ولا يضع الرفيع في موضع الوضيع (الإمتاع والمؤانسة).

لكن الجوهري في مفهوم التوحيدي أنه لا يفصل بشكل حاسم بين الجمال والكمال، فهما متصلان لاتصال الجسد بالنفس والعقل، وإن وعي الجمال الحسّي المادي وإدراكه هي مرحلة سابقة على إدراك الكمال الروحيّ ومعرفته والوصول إليه، وعلى ذلك فإن الجمال الحسّي ليس غاية بذاته، وإنما هو “وسيلة” إلى غيره، تساعد الإنسان على اكتشاف الجوهر فيه، ومن ثمّ تحقيق الكمال لديه، وهو ما يعتبر وسيلة أيضاً إلى معرفة خالق الخلق الواحد الأحد واجب الوجود. هذا تلخيص لعله مفيد في معرفة الأساس النظريّ للجمال عند التوحيدي، وهو موصول دون شك بالفلسفة الإغريقية، مع تظليل من طبيعة إسلاميّة.

شذرات:

في الشذرات التالية، نركّز على تجليات الجميل في الفن أو في الممارسة البلاستيكية والجمالية. ومنها يشفّ أن الجمال الداخلي عند التوحيدي أكثر أهمية من جمال المظهر، الخارجي، المرئي. وإن مظاهر الغِنى والألوان لا يمكن أن تُمثّل الجمال الحقيقيّ:

“قال فيلسوف للإسكندر: أيها الملك، إني مررت بمصوِّر فقلتُ: إنك قد أكثرتَ حلي هذه الجارية، فقال: نعم لم يمكنني أن أجعلها حسنة فجعلتها غنية.

قال فيلسوف: الجمال الظاهر الحسن يقدر المُصوِّر أن يحكيه بالأصباغ، فأما الجمال الذي للأنفس فلا يمكن، لأنه للإنسان بالطبع”.

[البصائر والذخائر].

“إن من شأن النفس إذا رأت صورةً حسنةً متناسبةَ الأعضاء في الهيئات، والمقادير، والألوان، وسائر الأحوال مقبولةً عندها موافقةً لما أعطتها الطبيعة، اشتاقت إلى الاتحاد بها، فنزعتها من المادة، واستبثَّتها في ذاتها، وصارت إياها كما تفعل في المعقولات”.

[الهوامل والشوامل]. المعقولات هي صور كلية “مفاهيم” موجودة في الذهن.

“الغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب، وتفريج الكرب، وإثارة الهزة، وإعادة العزة، وإذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة، وما لا يُحصى عدده”.

[الإمتاع والمؤانسة].

“فلا تصرف وجهك عن اللفظة السخيفة والكلمة الضعيفة، فإن المعنى الذي فيهما فوق كراهتك، وليس العالم تابعاً رأيك ومحمولاً على استحسانك واستقباحك، بل يجل عن مقاحم فكرك، ويعلو على غايات فهمك، فإنك ترى لنفسك محلا ليست به فتقول هذا حسن وهذا قبيح، دون أن تقف على حقائق ذلك الحسن والقبح بعقل ما شانه الهوى، ولا تحيفه الإلف ولا ضيعته العادة، ولا أفسده أقران السوء، ولا مني بالتخليط الرديء والمرة المسرفة، ومن لك بالكمال؟ بل من لك ببعض هذه الأحوال؟ هيهات! وأنت متردد بين غالب عليك، وقادح فيك، وآخذ منك، وهابط بك، إلا أن يأخذ الله بيدك، ويصرف كيد السوء عنك، ويحبس فعال الشيطان دونك، ويكون لك قائما بالصنع، هاديا إلى النجاة.”

[البصائر والذخائر].

“الصوت الجميل يسرقكَ منكَ ويردّكَ إليكَ”.

[لإمتاع والمؤانسة].

“الجمال هو كمال فى الأعضاء، وتناسب فى الأجزاء مقبول عند النفس “.

[الهوامل والشوامل].

“مَسْأَلَة: مَا سَبَب اسْتِحْسَان الصُّورَة الْحَسَنَة...

قَالَ أَبو عليّ مسكويه: أما سبب الاستحسان لصورة الْإِنسان فكمال في الْأَعضاء وتناسب بين الْأَجزاء مقبول عند النَّفس. وهذا الجواب غرضك من الْمسأَلَة الَّتي هي متوجهة نحو الصُّورة الإنسانية المعشوقة دون غَيرهَا. وأَقول: إِن الطبيعة مقتفية أَفعال النَّفس وآثارها فَهي تُعْطي الهيولى والأشياء الهيولانية صوراً بِحسب قبولها وعلى قدر استعدادها ..... فكما أَن الصِّناعة تقتفي الطبيعة فإِذا صنع الصَّانع تمثالاً في مادَّة موافقَة فَقبلت منه الصُّورة الطبيعية تامَّة صحيحة: فَرح الصَّانِع وسر وأعجب وافتخر لصدق أَثَره وَخروج ما في قوته إِلى الْفعل مُوافقا لما في نَفسه ولما عند الطبيعة....”.

[الهوامل والشوامل].

“ما سبب استحسان الصورة الحسنة؟ وهل هى كلها من آثار الطبيعة؟ أم هى خيالية من العلل جارية؟ وهل يجوز أن يوجد مثل هذه الأمور الغالبة، والأحوال المؤثرة على وجه العبث، وطريق الباطل”.

[الهوامل والشوامل].

سؤال جمالي جوهريّ ما زال قائماً: هل يجوز أن يوجد مثل هذه الأمور الجمالية وتأثيراتها على وجه العبث وطريق الباطل؟

صفات الخالق هي “سبب حُسْن كل حُسْن وهي التي تفيض بالحًسن على غيرها إذا كانت معدنه ومبدأه، وإنما نالت الأشياء كلها الحسن والجمال والبهاء منها وبه”.

[الهوامل والشوامل].

“ومناشيء الحسن والقبيح كثيرةٌ: منها طبيعيٌّ، ومنها بالعادة، ومنها بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة”.

[الإمتاع والمؤانسة].