اخر الاخبار

“انهم يقولون إننا مجرد مرتزقة، نكتب بدفع من جهات خارجية عدوة، لمجرد سعينا لكتابة الحقائق التي يتم تغييبها، تلك التي نعتقد أن إيرادها مهم لبناء مستقبلنا... يقولون إننا أعداء لمجرد أننا نحرص على تنظيف حديقة شعبنا، لو فعل الآخرون ذلك وقاموا بتنظيف حدائقهم فسيكون هناك فرصة أكبر للتعايش السلمي والشراكة بين مكونات هذا البلد!

نحن نواجه النظام الذي يملك كل شيء، إعلاما عاما وخاصا وأجهزة شرطة وتعليما وتوجيها ودعاية وتنظيما، وأنت حيالها لا تملك أي شيء غير نزاهتك ومهنيتك ومساحة صغيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، فهل تستطيع أن تتغلب على ذلك النظام وعلى أكاذيبه ومبرراته التي نرى جازمين أنها تهدد مستقبل أبنائنا؟”!

الكلمات أعلاه ليست لكاتب او ناشط عراقي.. إنها للطبيب النفسي والناشط والكاتب البوسني Srdjan Puhalo وهو يتحدث عن رؤيته “ ل “معركة الحقيقة “ في البوسنة والهرسك “ ..   معركة مازال يخوضها منذ سنوات لجعل قومه يتوقفون أمام الجرائم التي ارتكبوها ضد “الآخر” مرددا أن الأولوية يجب أن تكون لتنظيف “حديقة” شعبنا وأن لا نكتفي بمطالبة الآخر لتنظيف حديقته.. كان يتحدث نيابة عنا نحن الغارقين في بحر من العنف والقسوة والفقدانات، ذلك أثناء ورشة نظمتها، منظمة دعم الإعلام الحر (ims) بالتنسيق مع رابطة صحفيي البوسنة والهرسك في العاصمة البوسنية سراييفو في حزيران 2018، لإعلاميين ونشطاء عراقيين وسوريين، والتي تركزت على دروس الحرب الأهلية في البوسنة (1995-1992) والمرحلة الانتقالية، ودور الإعلام خلال فترتي الحرب وإعادة بناء السلام. مما قد يكون له فائدة لوسائل الاعلام في العراق للقيام بدورها في المشاركة في بناء جسور السلم الاهلي والتعايش بين مكونات المجتمع العراقي.

كانت تلك المرة الأولى التي التقي فيها اناسا يشبهوننا في دفع الثمن الباهظ للحروب بين أبناء الوطن الواحد.. كنت مندهشة من حقيقة أن الشعوب لا تتعلم من تجارب الشعوب الاخرى فتهدر الكثير من الحياة بغباء كبير وكان ما يحدث في مكان ما لا يمكن أن يحدث في مكان آخر من الكوكب.. بالرغم من أن المقدمات هي ذات المقدمات! 

حين تحدث الكاتب والبروفيسور البوسني Simic Goranالخبير بالعدالة الانتقالية عن ضحايا “الاغتصاب” اللائي لا تندمل جروحهن لأن “القاتل والمغتصب طليق في حين يمضي ضحايا الاغتصاب ما يطلق عليه “حياة” بطريقة تجعل من الموت أفضل ما يمكن أن تحصل عليه!، حين تحدث بلسان إحدى النساء من ضحايا الاغتصاب من خلال كتاب شعري بعنوان “تفكيك الروح” كان يتحدث عن بنات بلدي الإيزيديات والتركمانيات اللائي اختطفن واغتصبن وتم بيعهن مثل أي سلعة تباع وتشترى وما يزال الآلاف منهن مفقودات!

يقول كوران سيمك الشيء الجيد الوحيد في الحرب هو أن لها نهاية! .... لكن ماذا نفعل مع آلام المعتقلين السابقين وتشوهاتهم الجسدية والروحية؟...وماذا نفعل مع آلام عوائل الضحايا؟ ... ماذا نفعل أمام آلام عوائل المفقودين؟ ... وماذا يمكن أن نفعل مع آلام النساء والأطفال الذين تعرضوا للاغتصاب وسيحملون جراحهم وأوجاعهم معهم كل لحظة عشرات السنوات وإلى آخر لحظات حياتهم؟ ..... وماذا عن القتلة الكبار؟ والقتلة الصغار؟ الذين لم تطلهم يد القانون والمستمرون في حياتهم الطبيعية وبعضهم هنا وهناك يتصدرون المشهد.! -القانون عاجز أمام كل ذلك ...... هو لا يعرف المشاعر الإنسانية ولا يعرف المعاناة! ... هو يهتم فقط بالحقائق والوقائع!.... هو عاجز عن تحقيق العدالة لعشرات آلاف الضحايا... هؤلاء لن يجدوا العدالة أبداً ولن يجدوا العزاء في أي شيء.

كن مهنيا وتجرد من انتمائك، فالضحايا هم الضحايا، من كانوا وأينما كانوا ! “خلال عملنا في سنوات الحرب آمنا أن الضحايا هم الضحايا، ولا يجوز التمييز بينهم مهما كان انتماؤهم سواء كان مماثلا او مختلفا عن انتمائك، وحتى لو كانت عائلتك إحدى الضحايا فعليك أن تكتب بحيادية وموضوعية وتلتزم بأخلاقيات العمل الصحفي، لتكون صحفيا حقيقيا وتحظى بثقة الجميع، وإلا فستكتشف لاحقا أنك ارتكبت خطأً كبيراً وثمنه كان غاليا”. تقول بوركا رودي  Rudic Bork التي عملت في الصحافة قبل الحرب البوسنية، وخلال سنوات الحرب واصلت تلك المهنة الخطرة ناقلة من الجبهات أخبار المعارك، وعملت بحيادية وشجاعة في توثيق وقائع الحرب المأساوية وأحداثها وقصص ضحاياها من كل الأطراف، وهي تواصل عملها إلى اليوم بحماسة وإيمان بقدرة الكلمة الصادقة على التغيير، بوركا تشغل حاليا منصب أمين رابطة صحفيي البوسنة والهرسك:

كانت الورشة غنية بالتجارب والشهادات التي قدمها كتاب وصحفيون وناشطون ونقابيون خاضوا تجربة الحرب وآثارها التي لم تزل تحفر في روح أبناء البلد وبناته.. كنت أرى وأسمع ما يشبهنا في المعاناة والألم والأمل ولم يكن ما أسمعه وأراه غريبا عما عشناه في العراق من جراء الاحتلال والحرب الأهلية واجتياح تنظيم داعش لمدن عراقية والأعمال الوحشية التي اقترفها التنظيم ضد أهالي الموصل من إيزيديين ومسيحيين وتركمان ومسلمين، وسرقة وتدمير المدينة وتراثها واثارها.

كانت فرصة جيدة لتوجيه الدعوة لبوركا وسيرجي وكوران لحضور مؤتمر كلية الإعلام في جامعة بغداد الذي كان حول “الآخر في النتاج الاتصالي “ الذي أقيم في اكتوبر من العام نفسه اي عام 2018. لقد عرض الثلاثة خلاصة تجاربهم ورؤيتهم لحرب البوسنة والمحاولات المستمرة للخروج من حالة اللاحرب واللاسلم لتحقيق السلم الحقيقي لأبناء البلد وبناته..

كان للأصدقاء الثلاثة فرصة للقاء باحثين وصحفيين من داخل العراق وخارجه كما كانت لطلاب وطالبات الإعلام فرصة ذهبية لخوض نقاشات مهمة. اصطحبنا الأصدقاء إلى مدينة بابل التاريخية وإلى مدينة أور الأثرية في الناصرية حيث ولد النبي ابراهيم وكانت أهوار العراق قي الناصرية إحدى المحطات التي توقفنا فيها .. في بغداد كانت زيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني ومكتبة الحضرة الكيلانية العظيمة فرصة رائعة ويوما جميلا ختمناه بزيارة حضرة ابو حنيفة النعمان في الاعظمية..

حين أخبرتني الصديقة العزيزة المخرجة ميسون الباجه جي عن عرض الفيلم في سرايفو شعرت بان الأمر يشبه تبادل المرايا: فهو سوف يخبر البوسنيين عنهم مثلما أخبرنا الاصدقاء والصديقات في سرايفو عام 2018 عنا نحن العراقيين! 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كلشي ماكو فيلم روائي عراقي عرض في مهرجان سرايفو الدولي في التاسع عشر من الشهر الجاري وهو من اخراج ميسون الباجه جي

عرض مقالات: