لا تفتأ الأنواع الأدبيّة تتجدّد، على تعاقب الأزمان؛ يختفي نوعٌ ويظهر آخر؛ وكلُّ اختفاءٍ، وكلُّ ظهورٍ؛ إنّما هو مرهون بعواملَ اجتماعيّةٍ، وعوامل ثقافيّة؛ إذ لا ثباتَ لنوعٍ أو شكل! وكلُّ نوع يظهر إنّما تقتضيه حاجةٌ ما، ويعزّزه رصيدُ القائمين عليه من الموهبة والثقافة. ولقد شهِد الشعرُ العربيّ أشكالًا متباينةً؛ تظهر فتأخذ مداها، ثمَ يتقلّص ظلُّها، وترجِعُ شيئًا من تاريخ الأدب في تحوّلاته. وحين اتّصل الأدبُ العربيُّ بالآداب الغربيّة في أُخريات القرن التاسع عشر، ومطالعِ القرن العشرين؛ نفذت إليه أطيافٌ منها، فسعت طائفةٌ من منشئيه إلى أن تقتدي بأشكالٍ، وأفكارٍ من الآداب الغربيّة؛ فنشأت فكرةٌ فحواها؛ أنّ الشعر قد يجيء في غير إطار الوزن والقافية؛ فأخذ أمين الريحانيّ(1876 – 1940)، وجبران خليل جبران (1883 – 1931)ينشئانِ ضربًا من الكتابة له من خصائص الشعر؛ العاطفةُ المتدفّقة، والخيالُ المتوثّب، واللغةُ المبنيّة بالاستعارة؛ لكنّه يخلو من الوزن المعهود، والقافية المألوفة؛ وقد سُمّي هذا الضربُ بـ“الشعر المنثور”. ثمّ زاوله من بعدهم آخرون منهم ألبير أديب
(1908–1985)، صاحبُ مجلّة “الأديب” اللبنانيّة، وزاوله غيرُه معه على صفحاتِ مجلّته؛ غير أنّ المجلّة، وصاحبها، وكتّابها لم يسمّوا ما يكتبون “قصيدةَ نثر”، ولم يسعَوا إلى إثبات هذا الضرب من الكتابة، والدفاع عنه، ولم يجعلوا منه قضيّةً من قضايا الأدب. على أنَّ أواخرَ النصف الأوّل من القرن العشرين شهِدت نمطًا جديدًا من الشعر؛ تخلّى عن القافية، وأهمل نظامَ البيت العروضي، واكتفى من الوزن بأن أقامه على جزء من البيت القديم؛ وقد أخذ هذا النمطُ الجديدُ مدى واسعًا، وأقبل عليه كثيرٌ من الشعراء، وأُقيمت عليه الدراسات، واحتفت به الصحف والمجلّات. وكاد الأدباء أن ينسوا ذلك النمطَ من الكتابة الذي يُهمل الوزن كلّه، والقافية كلّها، ويكتفي من الشعر بجوهره. غير أنّ النزوعَ نحو التجديد، والرغبةَ في ابتكار أشكال جديدة؛ شيءٌ لا يُفرغ منه. وكلُّ شكل إذا مضى به الزمنُ يفقد شيئًا من طاقته، ويُتيح الطريقَ لشكل آخر. وقد نشأت في سنة 1957، في بيروت، مجلّةٌ جعلت الحداثةَ شُغلَها الشاغل، فسعت إلى تجديد الرؤى، والأفكار، وإلى تجديد الأشكال المعبّرة عنها؛ أعني مجلّةَ “شعر”، والقائمَينِ عليها: يوسفَ الخال (1917 – 1987)، وأدونيس (1930)؛ وكلاهما كان يريد الحداثةَ بكلّ تجليّاتها؛ يستقيها يوسفُ الخال من الإنكليزيّة وأدبها، ويتطلّبها أدونيس من الفرنسيّة وأدبها، ويسعيان معًا إلى إنشاء حداثةٍ عربيّة في الشعر، والفكر، وأنظمة الحياة. كان الأدبُ الفرنسيُّ قد عرف على يد بودلير (1821 – 1867) شكلًا جديدًا في الكتابة، نشره في كتاب سمّاه: “سأم باريس”؛ مداره على حكايات يرويها الشاعرُ على نحو وجيز مقتصد، ويضعها على الورق كما يوضع النثر، أي أنّها تملأ الورقةَ كلّها؛ فهي شعر من حيث الوجازة، والاقتصاد في الألفاظ، والخيال المتوثّب، والعاطفة المنسربة فيها، والرؤية الجامعة، وهي نثرٌ من حيث خلوُّها من الوزن، وكتابتُها على الورق مثلما يُكتب النثرُ؛ وقد صارت بهيئتها هذه شكلًا جديدًا من أشكال الكتابة؛ يُعلن التمرّدَ، ويجهر بالحداثة؛ دُعي هذا الشكل بـ“قصيدة النثر”؛ وكأنّه يجمع بهذه التسمية بين شيءٍ من خصيصة الشعر، وشيءٍ من خصيصة النثر ليؤلّفَ شيئًا جديدًا. وقد زاوله، من بعد بودلير، فرلين (1844 – 1896 )، ورامبو (1854 – 1891 )، وعُرفا به، وجعلا منه عنوانَ التمردّ على السائد المألوف، وعنوانَ الحداثة. ولمّا كان هؤلاءِ كلُّهم، بودلير، وفرلين، ورامبو من أعلام المذهب الرمزيّ في الأدب؛ فقد اصطبغت قصيدةُ النثر عندهم، وعند من جاء بعدهم، بالرمزيّة القائمة على الإيحاء وخفاء المعنى. ثمّ شاعت “قصيدةُ النثر” في الأدب الفرنسيّ، وصارت مادّةً واسعةً جديرةً بأن يقفَ عندها دارسٌ حصيفٌ فيدرسَ النشأة وأسبابها، والتطوّر ومظاهره؛ وقد تهيّأ لها ذلك في سوزان برنار (1932 – 2017 (وكتابها: “قصيدة النثر من بودلير حتّى الوقت الراهن”؛ وقد صدر الكتاب بالفرنسيّة في سنة 1958. وإذ قرأه أدونيس، في سنة صدوره أو في السنة التي بعدها، وجد فيه ما يبغي من تمرّدٍ وحداثة، ومن شيءٍ جديد يُدهشُ به قراءَ مجلّة “شعر”؛ فشرع في دعوته إلى هذا الشكل الجديد، وبيانِ ما يتّسم به من قدرة على استيعاب العصر القائم، وما ينطوي عليه من أضداد. وقد لقي هذا الأمرُ استجابةً لدى من ينزعُ إلى الحداثة، ويريدُ أن يقيمَ حياته على الرفض والتمرّد، وقطعِ ما بينه وبين أنماط الثقافة السائدة؛ وقد كان في الطليعة من أولئك: توفيق صايغ (1923 – 1971)، وأُنسي الحاج (1937 – 2014)، ومحمّد الماغوط (1934 – 2006)، وجبرا إبراهيم جبرا (1920 – 1994)، وغيرهم. وهنا لا بد من إيضاحِ أمرٍ، ودفعِ اللبس عنه؛ ذلك أنّ نمطًا من الكتابة ظهر مع “قصيدة النثر”، وهو مثلها يُهمل الوزن والقافية؛ دعاه أصحابه بالشعر الحرّ، وقالوا عنه: إنّه هو الشعر الحرّ بالمعنى الصحيح؛ يريدون ما يُسمّى بالإنكليزيّة: free verse، وهو النمط الذي كتبه الشاعر الأمريكيّ وولت ويتمان (1819 – 1892 (في ديوانه: “أوراق العُشب”. وقد تداول الأدبُ العربيّ الحديث كلا المصطلحين: “قصيدة النثر”، و“الشعر الحرّ” للدلالة على شعرٍ جديدٍ يُهمل أحكام العروض والقافية؛ ومرجعُ ذلك أنّ من يستقي من الأدب الفرنسيّ سمّاه: “ قصيدة نثر “ كما يُسمّى بالفرنسيّة، ومن يستقي من الأدب الإنكليزيّ سمّاه: “شعرًا حرًّا” كما يُسمّى بالإنكليزيّة. ثمّ شاع مصطلحُ “قصيدة النثر”، وامتلك كلَّ الدلالة على هذا الضرب من الكتابة، وانحسر مصطلح “ الشعر الحرّ”، وظلّ يدلّ على الشعر الموزون القائمِ على “التفعيلة” وحده. عُدّت مجلّةُ “شعر” قطبَ الحداثة، وصارت مهوى أفئدة المتطلّعين إلى الجديد، الساخطين على القديم، وأخذت فئات من الأدباء تحذو حذوها، وتقتدي بها، وتدعو إلى قصيدة النثر مثل دعوتها؛ فقد أنشأت جماعةٌ من الشبّان في سنة 1967، مجلّة “ الكلمة”، في النجف، ثمّ انتقلت إلى بغداد، وكان في صدارة القائمين عليها حميد المطبعيّ (1942 – 2018 )، وموسى كريدي (1940 – 1996 )، وقد حمل المطبعيّ رايةَ قصيدة النثر، ودعا إلى كتابتها، وجعلها عنوان الحداثة، ومدّ الأسباب مع كتّابها. وقد كان من أوائل كتّابها في العراق، مع المطبعيّ، سركون بولص (1944 – 2007 )، وصلاح فائق (1945)؛ على أنّ ما كُتب منها في العراق أدنى ممّا كُتب منها في بيروت لتفاوتٍ في الموهبة، ومستوى المعرفة.
وإذ كانت قصيدةُ النثر أثرًا من آثار الأدب الغربيّ في الأدب العربيّ؛ فلقد أرادت طائفةٌ من أعلامها أن تجعل لها أصلًا في الثقافة العربيّة، وأن تُرجعها، بنحوٍ ما، إلى جذور قديمة فقالوا: إنّها شيء عُرف في الأدب العراقيّ القديم، وفي الكتب المقدّسة، وإنّ متصوّفةَ الإسلام أدركوا شيئًا منها، ووقفوا، وقفةً خاصّةً، عند محمّد بن عبد الجبّار النِّفَّريّ (... – 354 هــ)، صاحب: “المواقف والمخاطبات”، واستمدّوا منه، ورأوا في مواقفه ومخاطباته ما يهيّء لهم جوًّا من الغموض الساحر، ويجعلهم على صلة بالتراث. كلُّ ذلك من أجل أن يكون لقصيدة النثر مرجعٌ عربيّ قديم حتّى لا يشتدَّ النكيرُ عليها! كان النِّفَّريّ من رجال القرن الرابع الهجريّ، صوفيًّا يكتنفُ الغموضُ نشأته ومسيرةَ حياته؛ نظر إلى الحسين بن منصور الحلّاج (244 هـ - 309 هـ) نظرَ إعجاب وتقدير، وأخذ عنه بعض مقالاته، لكنّه لم يجاهرْ مجاهرةَ الحلّاج، ولم يخاصمْ مخاصمتَه، ومال إلى خفيّات الكلام ذواتِ الوجوه في المعنى، فسلِمَ حيث لم يسلم الحلّاج. كان النِّفَّريّ كثيرَ الترحّل، لا يكاد يستقرُّ في بلد، وكان، في أثناء ذلك، ينشئ ما يخطر له من مواقفَ ومخاطباتٍ؛ إذ يَقفُه الحقُّ، سبحانه، ويخاطبه بما يَهديه، ويضيء له دربه. غير أنّ هذه المواقف والمخاطبات لم يُقدّر لها أن تأخذَ مدى واسعًا في زمانها، أو بعد زمانها، ولم يُقدّر لصاحبها النِّفَّريّ أن يكون ذا أثر واضحٍ في عصره أو بعد عصره، وكادت رياحُ الزمن تذهب به، وبمواقفه ومخاطباته؛ لولا أن قام آرثر جون آربري (1905 – 1969)، المستشرقُ الإنكليزيّ، في سنة 1935، بتحقيقِ كتاب: “المواقف والمخاطبات”، ونشرهِ؛ فعرف الناسُ به أمرًا جديدًا، وأدبًا فريدًا من آداب التصوّف؛ غير أنّ أصداءه لم تنفذ إلى الشعر الحديث، ولم ينشغل الأدباءُ به حتّى بدا لأدونيس أن يستلهمه، وأن يُفيدَ من بعض كَلِمه فيجعلَ منها مدخلًا إلى بعض شعره، وأن يصل، بنحو ما، بين تجربته وتجربة النِّفَّريّ في المواقف والمخاطبات. ولا ريبَ في أنّ تجربةَ النِّفَّريّ تجربةٌ فريدة في شكلها ومحتواها، وأنّها فريدة في سياق التصوّف الإسلاميّ كلّه، وأنّها، من بعدُ، شديدةُ الغموض والالتباس، ثمّ أنّها شيء غريب يكاد يكون مقصورًا على صاحبه، لا يشرَكُه فيه كثيرٌ من الناس؛ فإذا اتكأت عليها قصيدةُ النثر، وجعلت منها مرجعًا تستمدّ منه؛ فقد أقامت حاجزًا بينها وبين جمهور القرّاء! ذلك أنّ تجارب المتصوّفة، كلّهم، ليست ممّا يُعنى به قارئٌ مثقلٌ بمشاغل يومه!
ولقد وجدتِ التجاربُ الغامضة الملتبسة في قولة النِّفَّري: “إذا اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة”، ما يسوّغها عند أصحابها، وعند قرّائهم؛ إذ جعل منها أدونيس مدخلًا لبعض قصائده؛ ثمّ كثُر، من بعدُ، جريانُها على الألسن والأقلام؛ وكلٌّ يريد أن يسوّغ بها غموضَه الملتبس. ولم يقف أحدٌ ليسأل: أين نجدُ الرؤيا إن لم نجدها في عِبارة دالّة عليها؟ وما قيمة رؤيا لا تنتظِمُ في بناء لغويّ يُفصح عنها؟ وكيف نعرفُ سعةَ الرؤيا إن لم تدلّنا العِبارة؟
إنّ في ميل قصيدةِ النثر إلى تجاربَ صوفيّةٍ مصطنعةٍ، منفصلةٍ عن مجرى الحياة، ما أقام حاجزًا بينها وبين جمهور القرّاء، وجعلها تدور في نطاق ضيّق؛ ذلك أنّ الشعرَ، في جوهره، تمرّسٌ بالحسّي المتدفّق بالحياة، وليس انشغالًا بشيء مصطنع!
على أنّ قصيدة النثر لم تَبقَ أسيرةَ التجربة الصوفيّة المصطنعة؛ إذ شرعت تتناول شتّى تجارب الحياة، وتقف على ألوانها المتباينة؛ ومع ذلك فليس من الصواب أن تقرنَ الحداثةُ بالتخلّي من الوزن؛ وإنّما هي فكرٌ حديث أوّلًا. وقد كان لقصيدة النثر، بقالبها المرن، أن تستوعبَ، بنحو ما، جملةَ الأضداد التي تكتنفُ المجتمع والفرد، وتخالجُ الفكر؛ لكنّ أخطرَ ما تؤتى منه قصيدةُ النثر هو قالبها المرنُ، غيرُ المنضبط؛ إذ يحسبها ضئيلُ الموهبة مركبًا ذلولًا؛ فيقدمُ عليها مستسهلًا؛ على حين أنّ الإبداع، في كلِّ الميادين، لا يتهيّأ إلّا لذي موهبةٍ فريدة راسخة، ومعرفةٍ واسعة صحيحة. وهي، من قبلُ ومن بعدُ، شكلٌ من أشكال التعبير لا مزيّةَ له على ما سواه إلّا بما يحقّق من أصالة ومعاصرة في الفكر والصياغة، وبما يبلُغ من تأثير في جمهور القرّاء...