تتعدد الحجج التي بها يدافع النقاد والشعراء عن مسمى( الجيل الستيني) منها أن السنوات الستينية كانت على الصعيد العالمي محتدمة سياسيا واجتماعيا بالكثير من التحولات الفكرية والتطورات الإيديولوجية من جراء تداعيات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي فشهدت أمريكا ظواهر أدبية كظاهرتي البتنكس والهيبيز، وعرفت أوربا حركات وتيارات جديدة كالتفكيكية والرواية الجديدة واللارواية والتغريب والشيئية والكونكريتية.
وصحيح أن الشعراء العراقيين تأثروا بهذه التطورات العالمية، فتلقفت فئات منهم الوجودية انبهارا واتخذت من العبث ممارسة والسريالية فنا وقلدت بياناتها تأثرا كما كان لضغط الإخفاقات السياسية التي تلت الانقلاب الدامي في شباط 1963 وما رافقه من قمع واضطهاد، أن ساهم في ظهور شعراء صرعتهم التقليعات الفنية والحداثية العالمية فكانوا ذوي نزعات حادة في التمرد والعبث واليأس غير أن تلك الصرعات والنزعات لم تدم سوى مدة قصيرة إذ سرعان ما تلاشت بعصف أحداث قومية بكل الحياة العربية أهمها نكسة الخامس من حزيران 1967 فكان اليأس والقنوط وفقدان الأمل بالخلاص يلاحق الأدباء في الستينيات ليكون التحول الأدبي مقصورا على السنوات التي سبقت نكسة حزيران.
ومن الحجج أيضا الرغبة في مخالفة الرواد على صعيدي الموضوعات والأشكال. فغلبت على شعراء الستينيات موضوعات تتسم بالتهويمات واللامنطقية وسادت عندهم أشكال وأساليب مبنية على التفكك والفوضى في ترابط الجمل والصور التي كانت أشبه بالهرطقة والسفسطة كونها لا تركز على موضوع أو شخوص. ولو كانت هذه الرغبة في المخالفة حقيقية، لاستمر شعراء الستينيات على تلك الموضوعات والأشكال، لا أن يجافي بعضهم هذا الضرب من الكتابة ويعيدوها إلى مسارها الطبيعي الملتحم مع مسار الإبداع الذي سبقه والذي كان قد توقف تصاعده بالانقلابات والويلات والنكسات على كل الصعد، تاركين حالة التمرد وعائدين إلى تبني قضايا الجماهير وفضح أسباب النكسة وتعرية مراكزها العليا والدنيا هذا على مستوى المضمون اما على مستوى الشكل فان مسيرة الأدب العراقي استمرت في تصاعدها الذي كان أبان الخمسينيات وتياراته المتقدمة.
ومن الحجج التي يكثر قولها في(الجيل الستيني) هي اتصاف شعرائه بسمات خاصة تتمثل في التمرد على الأشكال المألوفة والاتسام بالفكر الوجودي والاندفاع في اتجاه العبث واللامبالاة ورفض الالتزام الفكري والسياسي والاجتماعي على المستوى الجمعي أو على المستوى الفردي المستقل. وهذا الاحتجاج يحمل التباسا واضحا ما بين العقدية التي هي جماعية والخصائص الفنية التي هي فردية. ومن ثم يصير - خطأ - أي كلام في الخصائص الشعرية هو نفسه كلام في الجيلية العقدية.
علما أن بعض النقاد استعمل كلمة الجيل بمعناها الفني لا العقدي ومنهم الدكتور علي جواد الطاهر في مقالته( وإذ يولد جيل) وأطلقها على تجارب نوعية لأسماء قصصية بعينها سماها( جيل الكلمة) نسبة إلى مجلة الكلمة التي عرفت بتوجهاتها الحداثية مبينا أن ليس سهلا ولادة جيل من القصاصين وإمكانية( ان تتوالى أجيال متعددة خلال مدة قصيرة لا تبلغ الخمسين عاما على ابعد الفروض). وبالفهم ذاته استعمل نقاد آخرون مثل د. شجاع العاني وعبد الجبار عباس ود. عبد الإله مفردة الجيل بعيدا عن التصنيف العقدي وتركيزا على التحولات الفنية التي تنشأ تأثرا بالأحداث المجتمعية الكبرى.
وتنبه نقاد وقصاصون للالتباس المتولد من جراء الخلط بين الفنية والعقدية، ومنهم القاص جهاد مجيد الذي أشار في مقالته( الجامع المانع والمصطلح المطاطي المائع ) إلى هذا الالتباس وكيف شاع مفهوم العقدية حتى قفز إلى الساحة الأدبية العراقية وحشر قسرا في النقد العراقي.
واستعمل سعيد الغانمي مفردة الموجة بديلا عن مفردة الجيل وهو يتحدث عن التغييرات في الخصائص الشعرية وليس الجيلية التي ظهرت ما بين أواخر الأربعينات ومطالع الخمسينيات على صعيد الأشكال والمضامين كالأدب الصارخ والشعر الحر والقصائد الملحمية، مبينا أنه كلما جاءت موجة جديدة مسخت ما قبلها عندئذ تظهر الحاجة إلى التزام جديد تتحول فيه الأنا الجمعية السابقة إلى أنا فردية تعيد رسم الواقع امثوليا بدلا من أن تتطابق معه.
وحدد الشاعر فاضل العزاوي أخطاء استعمال مقولة(جيل الستينات) في مقدمة كتابه( الروح الحية) بقوله:( يثير مصطلح جيل الستينات الأدبي في العراق الكثير من الالتباس حتى عند أولئك الذين ينسبون أنفسهم إليه حقا أو باطلا من منطلق أنهم كتبوا ونشروا أيضا في الستينيات أعمالا اتسمت بالجدة واختلفت إلى هذا الحد أو ذاك عن كتابات سابقيهم من الشعراء والأدباء مثلما يوحي ضمن القراءات النقدية الملتبسة له بالانقطاع عما قبله أو بعده كما لو انه جزيرة عائمة وسط البحر سكنها ذات يوم عدد من الشعراء والكتاب المغتربين عن زمنهم ومجتمعهم وثقافتهم والأكثر من ذلك ان جيل الستينات تعرض في البداية من جهات سياسية مختلفة إلى الاتهام بنشر روح اليأس والهزيمة وتبني المدارس والأفكار البرجوازية المنحطة والتنكر للحركة الثورية )
ليس ذلك حسب بل فصَّل القول في أخطاءٍ ثلاثة ينطوي عليها استعمال الجيلية الستينية وهي: 1 )النظر على أساس العمر أو العقد الزمني 2 ) الاعتقاد أن الستينات كانت مدرسة أدبية أو فنية موحدة يمكن وضع الجميع في سلتها الفضفاضة أو أنها من صنع مبدعي مدينة واحدة 3 ) عد الستينات مجرد نزوع شكلي عند بعض الشعراء والكتاب لتجديد الشكل على غرار ما فعل الجيل السابق.
وربط ما جرى في الستينيات بالأزمة الشاملة للثقافة العربية وبالطريقة التي تدرس بها الظواهر الفكرية والجمالية في زماننا. وأن ما في الستينيات من ظاهرة عالمية أدت إلى تطور مدهش في الرسم والشعر في العراق وحصلت تحولات وتطورات استمرت إلى أواسط الستينيات( عكست مستوى نوعيا أعلى للوعي باتجاه التحرير الإنساني كلحظة جديدة ضمن حركة الحداثة الكونية الشاملة) فشاعت عالميا مفاهيم الجيل الضائع الذي طرحته غيترودشتاين وهمنغواي وجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية أو الجيل المهزوم.
وفي العراق ظهرت أواسط الستينات أعمال أولى شكلت ظاهرة سماها( الروح الحية) متأسيا بمسميات أخرى سبقه إليها بعض الكتّاب مثل الموجة الصاخبة والكتابة الجديدة الطليعية والمضادة والحرة واللاقصيدة وأدب الاحتجاج وأدب الرفض والكآبة.
ووصف هذه الظاهرة بأنها حساسية إنسانية جديدة محملة برؤى تراثية ومتطلعة إلى نبذ الايديولوجيا وعبودية الفكر، طابعها ليس جماهيريا ولا شموليا لكن هذا كله ظل مقصورا على المستوى النظري حسب. وحين توغل العزاوي في متن الكتاب وقدم شهادته خلط بين فنية الظاهرة وعقدية الجيل، واقعا في الأخطاء الثلاثة التي حذر منها في المقدمة محتجا لنفسه وغامطا الشاعر حسب الشيخ جعفر حقه الشعري ـ ومن يعد إلى ما نشره شعراء البيان الشعري1969 من مقالات أو كتب فسيجد أن غايتهم من وراء ذلك - على تغاير مناهجهم- ليست التوافق على وضع تاريخ للشعرية العراقية وإنما حصد التمايز لشعرية عقد الستينيات الذي هو برأيهم جيل لوحده باستثناء د. خالد علي مصطفى الذي كان بعيدا نوعا ما - فيما بعد - عن القول بجيلية الستينيين ربما لأن نزعته النقدية والأكاديمية أكسبته حصانة أكثر.