في السجن.. أتقن اللعبة.
أتقن اللعبة، بعد أن عجز عن توفير كتاب يقرأه، أو سجين يحاوره، أو عمل ينجزه.
أتقن اللعبة، وبات ينافس من علمه اللعبة.
كانت به رغبة ملحة لمعرفة تفاصيل اللعبة، بوصفها لعبة الاذكياء.
لعبة من يفكر ويتأمل.
أتقن أولاً كيفية صناعة الأدوات من العجين، وميّز فريقاً عن آخر، بأن أبقى على العجين الذي تبقى من الصحون بلونه الأبيض، فيما لجأ إلى رماد السكائر وخلط ماتبقى من العجين، وتميز عن الأول بسواده.
كان يرقب اللاعبين، فاللعبة تحتاج إلى مراقبة دقيقة، والشطرنج لعبة من يخطط ويرسم ويعرف طريقة منافسه في اللعبة.
أسرار اللعبة، لا يعرفها إلا من كانت به رغبة للخروج من محنة أو مأزق أو دائرة..
خسر اللعبة مرات، وحالفه الحظ مرة، وقال منافسه، أنه قد أتاح له الفرصة لأن يربح، حتى لا يمل ولا ييأس ولا يتخلى عن مشاركة اللاعبين.
إذن.. هم كسبوا سجيناً ينضم إليهم.. وما دام قد شاركهم اللعبة فأنه سيشاركهم أفكارهم وخططهم وطريقة حياتهم.
أدرك هذا الأمر جيداً، وسار في مساره كمن يجهل كل شيء.
ألفوه.. ولم يألفهم، وثقوا به.. ولم يثق بهم، كسبوا صداقته، ولم يشعر يوماً أنه على وفاق معهم.. لكنه كتم كل شيء عنهم.
كان واعياً لما يدور حوله.. أتقن اللعبة، مثلما أتقن جيداً طبيعة ما يعملون من اجله.
وفي تفاصيل اللعبة، تبين أن كل لاعب فيهم يضحي بجنوده ولا يشغله امرهم.. فالمهم أن يبقى الملك ووزيره وقوته المتمثلة في الفيل والحصان، ولا عليه من القلعة إن خسرها أو تخلى عنها عن طيب خاطر.
كان اللاعب فيهم شديد الحرص على أن يظل الملك شامخاً إلى النهاية، حتى لو ضحى بكل جنوده وقلعته، وحتى وزيره.. المهم أن يكون حصانه سالماً، وفيله قوياً..
سأل أحد اللاعبين المحترفين:
- ما قيمة الملك.. بلا قلعة ولا جنود ولا وزير.. ملك على من؟
ضحك اللاعب المحترف.. قال:
- ولكنه محمي بقوة الفيل، وفي اسوء الأحوال، هناك حصان يمكن أن يمتطيه ويهرب سالماً.
- هذا ملك اناني..
- وهل كان الملوك.. ضحايا يوماً ما؟!
كتم غيظه، وتبين اللعب في واقع منكسر يعيشه..
كان قد دخل السجن بتهمة التحريض ضد الحكومة.. فيما كان زملاء السجن محترفو قتل وفساد مالي واغتصاب وسرقات.
كان الكل ضد الحكومة.. وكان على الحكومة أن تجمعهم ما داموا يشتركون في مسألة واحدة أنهم ضدها.
كانت الحكومة عادلة في توزيع ظلمها.. هكذا كان يقول لرفاق سجنه..
استمرت اللعبة.. واستمر تساقط الجنود ثم الوزير ثم القلعة، وجرح الفيل جراحاً بليغة، وهرب الملك بحصانه يطوي الزمان والمكان.
قضى الجميع محكوميتهم على حسب الأزمنة.. وصار الكل في الخارج لا يعرف الكل..
لكنه وحده كان يعرف رفاقه، يعرف من يفكر معه ويقف إلى جانبه في الملمات.. كانوا مثله.. لا شأن لهم بحياة الملوك ولا بالفروسية ولا بقوة الفيلة..
كان يعنيهم الجنود، هؤلاء الذين يساقون إلى حروب لا تعنيهم، ويموتون في ساحات غريبة عنهم، ويتركون أطفالهم وزوجاتهم وآبائهم وأمهاتهم وحبيباتهم.. ثكالى، ترافقهم دموعهم وحسراتهم وذكرياتهم..
كان يلتقي اصحاباً، يفكر معهم سوية في إيجاد سبل يعيش فيها الجند بلا حروب، وطغاة لا وجود لهم في اضطهاد الجند وتوجيههم إلى حروب مفتعلة خلاصاً من معارضتهم.
كانت اللعبة شديدة الوطأة عليه، كان يفكر في ابعادها ونتائجها وعوالمها وسبل الخروج من مآزقها..
كان أصحابه يفكرون معه.. بحثاً عن سبل تنجيهم ومن معهم.. من ملوك اللعبة، الذين باتوا يغامرون بالجنود ويحتفظون بوزرائهم بوصفهم الأقرب اليهم.. ولا عليهم من قلاع يتم هدمها وتدميرها.
باتت لعبة الشطرنج ساخنة في أصابع اللاعبين.. راح الجنود يتساقطون والقلاع تتهاوى، والفيلة على ضخامتها تموت وتتعفن في معركة ضارية بين الجنود السود والبيض.. فيما الملوك يديرون المعارك من أمكنة آمنة..
كانا كلا اللاعبين، يحسان بنشوة النصر، فما داما أحياء.. فأن هذا يعني أنهما منتصران.. وحين يصل الأمر إلى المنافسة بينهما يتصالحان، ويتفقان على العيش المشترك.. على الرغم من إدراكهما أن اللعبة لم تنته وأن الخسائر فادحة لدى كل منهما..
المهم انهما ينعمان بالأمان.. ولتبق المعارك على أشدها.
تأمل اللعبة ذات خريف.. وراح يفكر في شتاء اللعبة، في صيف اللعبة، حمل تأملاته إلى رفاقه قالوا له:
- انت لا تعرف اللعبة.. سيموت الجميع، لكن رقعة الشطرنج باقية، وهي، هي وحدها من سيجيئ بالربيع.
حدق في وجوههم.. رأى ابتسامات تشق طريقها في عيونهم وشفاههم وملامحهم.. وشاركهم في ربيع آت.
29/10/2024