اخر الاخبار

يشبه فيلم الأنيميشن “جابوجا” للمخرج المبدع أنس الموسوي قصيدة الومضة التي لا تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة؛ ذلك لأنها مثل مياه النهر التي تحفر عميقًا في باطن الأرض وتترك أثرها الملحوظ الذي لا يمكن تفاديه أو غضّ الطرف عنه.

لا شكّ في أن فكرة هذا الفيلم “عظيمة” من حيث الصياغة والمقاربة والتنفيذ على الرغم من بساطتها الظاهرة ولكنها بساطة “السهل الممتنع” الذي يمكن أن تجاريه وتستوعبه بسهولة ولكنك لا يمكن أن تجترحه أو تأتي بمثله.

يأخذنا المخرج وصاحب الفكرة معًا إلى الإنسان البدائي الأول أو إلى طفولة البشرية، إن شئتم، قبل ملايين السنين ليتعاطيا مع فكرة الاستبداد والدكتاتورية والطغيان حيث تتمركز السلطات جميعها بيد شخص واحد يتجاهل أحلام الشعب وطموحاته وتطلعاته صوب حياة حرة كريمة لا يؤرِّقها الظلم والتعسّف ومُصادرة الرأي الآخر في أقل تقدير.

لم تنتهِ الفكرة التي اجترحها “علي ليث” عند هذا الحد وإنما تتعداها إلى تشظيات أخرى ترتدّ إلى الدكتاتور المتجبِّر ذاته الذي ينفرد بالرأي ولا يصيخ السمع إلى آراء الآخرين ألبتّة. فهو عنيد وطاغٍ ومتجبِّر ولا يعرف سوى أن يحكم “الرعية” بعنف ووحشية وقسوة مفرطة.

ولو تأمّل هذا الدكتاتور لبعض الوقت لربما لوجد طوق النجاة أو بعض الحلول الشافية الوافية عند أبناء شعبه ومواطنيه التي تجنّبه مصيره المحتوم الذي يُذكِّرنا عالميًا بمصير أودولف هتلر، وبينيتو موسوليني وجوزيف ستالين ويُحيلنا عراقيًا إلى صدام حسين ومن سبقوه من القادة العراقيين إلى المصير الأسود نفسه بسبب عنادهم وغرورهم وكبريائهم الأهوج. نخلص إلى القول بأن الثيمة الرئيسة والثيمات الفرعية لهذا الفيلم هي الاستبداد والدكتاتورية والعناد والتكبّر والغرور وهذه الصفات الخطيرة موجودة منذ الأزل ويمكن أن تستمر إلى الأبد وخاصة في البلدان المقموعة والمُضطهدة والتي تفتقر حتى الآن إلى أبسط المُعطيات الديمقراطية، ويعتقد المخرج  أنس الموسوي أنّ هذه الصفات قد تكون جينية تُولد مع الإنسان وليس بالضرورة أن تكون مُكتسَبة من البيئة أو المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه.

على الرغم من أنّ “جابوجا” هو فيلم ناطق لكن حدود الحوار لا يتعدى أكثر من كلمتين تتكرران لمرات قليلة تحمل في طيّاتها الكثير من الدلالات العميقة؛ دلالات تقودنا إلى النبع الأول وتُفضي بنا إلى الوقت الحاضر بكل تجلياته العلمية والتكنولوجية المتقدمة.

فكلمة “جابوجا” التي تبدو غامضة للوهلة الأولى وتُحيل إلى فجر البشرية وما تنطوي عليه من دهشة وغرابة وافتتان تعني باللهجة العراقية مع بعض التحوير “ يا بُويا” وهي العِبارة التي تُطلق في لحظات الخوف والذعر والاستغاثة. فحينما يؤكد الدكتاتور على كلمة “جابوبا” تردّد الشخصيات الست الباقية هذه الكلمة وترسّخها في الذاكرة الجمعية وكأنها تمحو التسميات والحلول المُقترحة التي يقدّمها المواطنون الآخرون من أبناء الشعب.

فالدكتاتور لا يستطيع إلّا أن ينظر في مرآة ذاته، ويسمّي الأشياء والظواهر بما تجود به مخيّلته الشخصية المريضة. أمّا كلمة “جاجيك” التي تبدو سمعيًا وكأنها تنتمي إلى “جابوجا” أو تجاورها في الأقل فهي معروفة لأبناء المجتمع العراقي فهي “مزّة ونوع من المُقبِّلات وهي تشير من طرف غير خفي إلى الكائنات النباتية التي تقف بالضد من الحيونات المفترسة، والضواري المُجنّحة، والزواحف العملاقة التي قدّمها لنا مخرج الفيلم وصانعه بحرفية عالية استطاعت أن تشدّ المتلقين وتُبهرهم رغم قِصر مدة الفيلم التي تجاوزت الخمس دقائق ببضع ثوانٍ لكنها انطوت على كثير من الرؤى والأفكار العميقة التي تلامس مشاعر الإنسان وتحثّه على إعمال الذهن والتفكير وتستدرجه إلى غابة الأسئلة المحرّمة في منظومة الدكتاتورية والاستبداد التي لا تستطيع أن تنتهك نرجسية القائد الأوحد الذي يفكر بالنيابة عن الجميع.

لا بد من الإشارة إلى أنّ أنَس الموسوي كاتب ومخرج وصانع رسوم متحركة.

أنجز حتى الآن 26 فيلمًا و”جابوجا” هو العاشر من حيث الإخراج، والسادس والعشرين من حيث الصناعة وثمة فرق ملحوظ بين وظيفة المخرج وصانع الرسوم المتحركة. ومن أبرز أفلامه “الفراشات تموت محلّقة”، “رقصة الثلج”، “هناك أجمل”، و “كلكامش العظيم”.

أصدر أَنَس كتاب “الفن الثامن” وهو أول كتاب متخصص في تقنية صناعة الرسوم المتحركة على الصعيد المحلي وسوف تصدر طبعته الثالثة في القريب العاجل.

عرض مقالات: