اخر الاخبار

جوهر الممارسة التشكيلية التي ينهمك فيها الرسام يوسف الناصر تقع في إصراره على عمل “لامكتمل”، رغم اكتمال أدوات الفنان وقدراته المشهود لها ومعرفته بتقنيات فن التصوير ومفاهيمه وسيطرته على مختلف أنواع الكتل والأشكال واللوينات. عرّض هذا الإصرارُ الفنانَ لبعض سوء الفهم والتقدير، خاصة من طرف من لا يتقبّل العمل الفني إلا مُكتِملاً، ومن طرف من يراه بعين أقرب للفهم التقليديّ (للكمال) المتفارِق قليلاً مع وعي حداثة.

في وقت سابق، كتبنا مطوّلا عن مفهوم اللامكتمل (inachevé أوunfinished) في العمل الفنيّ، ولا صرورة في السياق الحالي لاستعادة ما كتبناه.

مفهوم اللامكتمل: يقال له بالفرنسية inachevé وبالإنكليزية unfinished، في مقابل المكتمل achevé وfinished. نية الفنان بعدم اكتمال عمله عن قصد، هي المتوخاة في هذا المفهوم، وهي التي تدفعنا للتساؤل عن التأثير الذي تنتجته تقنية الـ “non finito” منذ دوناتيلو Donatello الإيطاليّ في نحت القرن الخامس عشر الميلادي، وحتى الفن الحديث والمعاصر.

سيقت العديد من الحجج والمبررات لتبرير انهماك الفنانين الحديثين باللامكتمل، وعلى رأسها اعتباره عملاً مفتوحاً، تشارُكياً ومتنوّعاً، ذا ذاتية قوية، احتمالياً، في تحدٍ جذري لمفهوم (الكمال) المثاليّ، كما أنه يعبّر وجودياً عن قلق الفنان وتساؤلاته ومخاوفه، ويضع للصدفة والآنيّ مكاناً في صلب عمله.

في كونه عملا مفتوحاً، تشارُكياً يعبّر عن قلق الفنان، تقع جُلّ اهتمامات يوسف الناصر باللامكتمل. ففي معرضه “الرسم من المسافة صفر” يقول مثلاً: “بعض الروائيين والشعراء وحتى الرسّامين يتركون منتوجاتهم فترات طويلة قبل ان يعودوا إليها لتقييمها وإعطائها صيغتها النهائية. عملتُ عكس ذلك تماما”. ويقول: “أن نرسم ونكتب ما يعتمل بالروح مباشرة أمام هول ما يمكن أن نراه، دون مراجعة ودون أكاديميا، أن نصرخ، أريد أن أصرخ “.

لفهم الأمر علينا ملاحظة أن الناصر لا يقدّم لوحة أو عملاً مُحْكَماً وفق القواعد وفيه عنصر أو أكثر تنقص عمداً، أو أن عنصراً أو أكثر مرسومة قصداُ بطريقة غير مكتملة. لا يتم الأمر بهذه الطريقة بالضبط، لأن غالبية أعمال الفنان تقوم على أساس الدفق الأول الذي يُنتِج خطاطة أوليةesquisse (لعملٍ لن يُنفّذ أبداً)، إنه بالأحرى كروكي croquis (رسمة مختصرة). في الخطوط الخارجية لهذه الرسمات نلاحظ توتر الفنان ودفقه الروحيّ وحماسه لموضوعه، حتى الأعمال الزيتية تقوم على هذا المبدأ لكن بالتلوين الذي يجري اختزاله لأدنى مستوى له، أو الاكتفاء باللون الواحد (المونو)، الغامق أو الأسود غالباً. الخطوط الخارجية عزيزة على قلب الفنان لكأنها بعض من أعصابه المتوترة المعروضة أمام عيون المشاهدين. في هذه العملية لا مكان أصلاً للكمال ولا مقام له لأنه ابعد من يكون عن هواجس عملية متراكبة مثلها مهمومة بأمر آخر: يشتغل الفنان عكس الصيغة المكتملة للعمل تماماً.

لذلك فإن يوسف الناصر بعيد جوهرياً عن مفهوم (الكمال) الأفلاطونيّ، وعن مفاهيم الأفلاطونية الجديدة، وهنا جوهر القضية.