تنتاب المرء رغبة ملحة في اكتشاف كل عمل حظي باهتمام الآخرين، وذلك بهدف معرفة خفاياه وابعاده واسراره ومصدر الاعجاب به ومن ثم تمييزه عن سواه من الاعمال – أية اعمال كانت-
فكيف اذا كان العمل روائياً، له صياغاته الفنية، وأسلوب كتابته وتوجهه، وماذا يريد ان يقول في نهاية الامر، بحيث أثر في خبرات عالمية وسحرها وجعل من روايته عملاً يحظى اولاً بجائزة مان الدولية عام 2016، ومن ثم يفوز بجائزة نوبل 2024؟
صاحبة هذا العمل الروائي، هي هان كانغ من كوريا الجنوبية (56) عاماً، ترجم لها عن اللغة الكورية الى العربية محمود عبد الغفار، روايتها “النباتية” – دار التنوير/ تونس 2018.
الرواية تقع في (224) صفحة وفي ثلاثة اقسام هي: (النباتية، البقعة المنغولية، لهيب الأشجار) لا تأخذ من قارئها الكثير من الوقت، كما ان لغتها، لغة شفافة، خالية من التعقيد، ومن الاحداث المتداخلة.
متعة قراءتها، متعة راقية، ومصدر الرقي فيها، تعريفنا بحيوات إنسانية عميقة، ومشاهد سيكولوجية مدهشة، فيما نحن نتعرف على شخصية نسوية، تكون احلامها الدامية، مصدر تدمير لحياتها وحياة من حولها، ليس أهمها ابتعادها عن تناول اللحوم وانصرافها للعيش على النباتات، وانما انعكاس هذا الحلم الدامي المتكرر عليها وعلى شقيقتها.. وما يرافق حياتهما من مرارة وعدمية وافراط في الدهشة والتعري والتحرر الفني والجسدي على حد سواء.
في الوقت نفسه نجد الرجل في هذه الرواية شغوف برسومه على الأجساد العارية، مجرداً من القيم، مجرداً من الهموم التي تعاني منها المرأة. وهذا ما يجعل التباين، شعوراً تنتابه القطيعة، مثلما يتفاعل مع حياة تقليدية خالية من التضاد البشري او التفاعل بين الجنسين.
النباتية.. هنا لا تعني القطيعة مع تناول اللحوم حسب، وانما القطيعة مع تلك الاحلام المليئة بمشاهد الشر والتي تنقل حياة المرء المستقرة الى حياة مملوءة بالفزع والحذر وكأننا نستعيد (مسخ) كافكا ومعاناته امام صرصار التقاه، ذات صباح.
“النباتية” هنا “أصبحت شخصاً آخر، او ان شخصاً يعيش بفزع داخلي، بدأ يفترسني آنذاك”. ويكبر هذا الإحساس العميق ليتحول الى “مشاهد قصيرة لهجوم حيوان تلمع عيناه بتوحش”.
هذه الاحلام الوحشية، تصبح كل حياة (النباتية/ يونغ هيه) ويجعل منها كائناً تدميرياً مملوءاً بالخوف والحذر والإحباط والحذر المفرط.
فكيف اذا تجسد هذا الحلم وتحول في الواقع الى كلب شرس يغرس اسنانه في جسد انساني؟ ولكي يشفى لا بد من قتل الكلب ومن ثم الاكل من لحمه لغرض الشفاء!
وهذا الواقع هو نفسه الذي من شأنه ان يجعل المشهد ينمو وينتقل الى حلم قاتل، يشهد جريمته بنفسه وبضحيته التي تلازمها سكين دامية؟
ان هذا الخوف المرير، ينتقل الى ضغوط حياتية تبدأ من قبضة فتحة باب لتنتهي الى التدمير الذي تكون نهايته في مشفى للامراض النفسية والعصبية.
هذه الرواية ليست رواية استثنائية في تناولها هذه (الثيمة) القاسية، فقبلها كانت الرواية المدهشة لسو جنتسين “جناح السرطان”، التي من شأن قارئها الإحساس تماماً انه مصاب بالسرطان فعلاً، مما يجعله يعيش حالة ووضعية وعالم المرض والمريض معاً!
الا ان ما يميز (النباتية) هذه المساءلة في اختيار المفردات الدقيقة التي تخلو من الزوائد والثرثرة والمشاهد التي تثقل العمل وتكون طارئة عليه.
“النباتية” يمكن ان تعد رواية تقليدية في المفهوم العام للرواية الفنية النابهة، لكنها تتفرد عن سواها من الروايات كونها تشد قارئها وتجعله يتفاعل مع احداثها بشكل هادئ، بشكل انيق، بشكل بالغ الدقة في اختيار كل كلمة من دون حذلقة او افتعال او تعقيد.
فالبساطة هنا، بساطة مهارة وبساطة وعي بالكتابة الفنية الساحرة التي تأخذ قارئها الى امتلاكها من البداية الى النهاية في جلسة او جلستين وبوعي وانشداد امتلكه مترجم ناجح، نقرأ ترجمته للمرة الأولى، ومن ثم سنتابعه للمرات الاخر.
من هنا كانت “النباتية” سهلة الهضم، وهنا سهولة عميقة، تمكنت منها هان كانغ وجعلت من (بوكر) ومن ثم من (نوبل) سبيلها الذي تستحقه بجدارة واناقة روائية بهية لا بد ان نتابع منجزاتها اللاحقة حالما تجد سبيلها الى لغتنا العطشى الى كل ما هو جديد وفائق وساحر وعميق كذلك.