اخر الاخبار

 لَمْ أَرَ في حياتي أعجبَ و أبهى من خَفق ذاك الضياء المجيد وهو يتدفق مثل جسمٌ فسفوري نصف مرئي  غشى بياضه المنهمر عينيّ بالرؤية الغريبة في عشية ممطرة من ذلك اليوم المشهود .كان أشبه بصدمة كهربائية طاشَ لها صوابي و أقشعرَّ زغبُ ظهري برداً برغم أنني كُنت أتصببُ عرقاً بما كُنت أحمل من هواجس وأشواق في نَزَعِها الأخير . ما هذا الطيف الَّذي مرَّ خاطفاً وتركَ أثرَ أصابعه المثلوجة بين أضلعي؟! إن لَم تكن أصابع المَنية فهي إذاً أصابع أمي التي نكزتني؛ كانت كُلَّما جَنح غسقُ المغيب نَحوَ الظلمة الكئيبة، نادتني أيام كنتُ صغيراً ألعب في زقاقنا القديم. فشعرتُ وكأني أخرج من نفسي متناثراً في انفجار لحظةٍ تعمي الأبصار ،اصطفقتْ كما الرعد في مكان ما من بوابات السماء أو اصطفاق أبواب حديد ثقيلة في غياهب السجون، فلَمْ يَرَ أحدٌ ،غيري ، هذا الشكل نصف المرئي وهو يهبط نحوي ناصع البياض ويقتادني سِراً باستقامة لا انحراف فيها ثم يصعد بي، مخترقاً في رمشة عين سقفَ زنزانتي ، ويُركِبَني ظهرَ غيمة ماطرة في دربٍ من دروب السماء، تحَفُّ بيّ عناقيد الضياء المتلألئة مثل شُهب أو نيازك في هويٍ مُستمر وكأنَّ الدنيا ، في تلك الليلة ، راحت تمطر ضياءً و ماءْ.

في تلك الليلة الممطرة بالذات، وَجدت نفسي وكأني على موعدٍ مع أمي، أهبطُ بخفّة ريشة بيضاء، أبحث عن محط فوق سطح دارنا القديمة. كانت رياح شباط لم تزل تعوي بوحشية في العرصات المهجورة من الزقاق مثل نواح أرواح أثلجها مطر الليل هناك .لَمْ يرني أحد وأنا أهبط غير أن كلاب الحي استغربت رائحتي فجن جنونها، لكن ما كان أسهل عندي النفاذ عبر الجدران بلا ضَجَّة أبواب مُرتَّجة ولا قلقلة أقفال . كنت قد دخلت في سكون تام عدا تلك الهسهسة الخافتة المنبعثة من حفيف خطاي وأنا أهبط في دوامة تلفني كأنَّها راحت بي إلى الأعماق.

هكذا وجدت نفسي بجانب سرير أمي؛ في عمقٍ وطيء السقف تنبعث منه عفونة جص ورطوبة، ولم يكن الجو هنا يخلو كعادته من نفحات وردٍ  وورق غار يابس وآس وحرمل محترق وبخور دأبت أمي على إحراقها في ليالي الجمع الطِوال بانتظار عودتي . كأن رعشة سرت في جوانحي وأنا أُفجأ بها مستلقية ببدلة بيضاء وقد شبكت يديها فوق صدرها تغط في سبات عميق. لم تكن يداها الآن تشبهان يديها أبدا وكأنهما في سكونهما واصفرار لونهما مثل يدي دمية ملقاة خلت عروقها من الدماء. ما كان أشدّ امتقاع وجهها وفمها جاف مفتوح على وسعه، حتى تملكني شعور بأن وجهها مجرد قناع و أنها لن تستيقظ أبدا من سُباتها، وسرعان ما اكتشفت أنها لم تكن نائمة ؛ما لبثت أن رفعت جفنيها المتغضنين من طول السبات وهي بهذه النظرة الغريبة كأنما تحدق بعيدا نحو شق في السماء، وتنفستْ عميقا كما لو أنّها خَرجتْ للتو من باطن الأرض ، لكنها في البداية ، ما كانت تحدقُ بشيء البَتة، ولم تكن تعرف أين هي حتَى إذا ما استقرَّ نَظرُها عليّ أخيراً وشعرت بوجودي تدريجيا، رمشت عيناها لتتأكد من انهما مفتوحتان . لكن يا إلهي! ما كان أروع جمال وجهها حين تغير لحظة رؤيتها لي! كأنما عادتْ صبية في عمر المراهقة ما رأيت مثل جمالها وقد أضيء وجهها بلون وردي زاه.

وإذا بها تنظر بذهول إلى ما حولي من ضياء رافقتني .جحظت عيناها طويلا بسؤال صامت جعلها ترتجف مثل ورقة خريف في مهب الرياح. رحنا هكذا مُسمريّن لحظة طويلة يتفحص كلٌ منا صاحبه، ولم أك أعلم في البدء ما أقول لها، كنت أشعر وكأني مازلت مُحلِقاً بمثلما جئت لا استقرار لقدميّ على ارض صلبة. وإذا بها تباغتني بشفتين مرتعشتين ثم تنطق بالسؤال:

-أهذا أنت يا ولدي؟

- نعم يا أماه. هذا أنا.

- هل عدت يا ملاكي؟

-نعم يا أماه ها قد عُدتُ إليك أخيراً. قُلتُ لها بلهجة الهادئ المستريب، فأفترَّ ثَغرُها عن ابتسامتها القديمة التي يتَجعَّد لها مَنبتُ أنفها بخطوط رفيعة واستطعتُ أن أرى نقاط الوشم الذابلة أسفل الحنك لكن شفتيِّها ارتعشتا طويلا مثل سلحفاة كأن صوتها قادم من جوف الماء بلحن هاتفٍ واهن تردد صداه طويلا في ظلمة السراديب حتى هدأت وبقبق صوتها مثل فقاعات وهي تسأل بشك واضح:

-أفهم أنك عُدتَ لي مثل كلِّ مرّة؛ تقذف بك رياح الليل نحو وحدتي المثلوجة؟

-كلا يا أماه، لقد أفرجوا عنا وعُدتُ إليك حَقاً هذه المرّة.

لم يكن في سؤالها الأخير أية حماسة كأنها كانت يائسة دأبتْ تُردد بوهنٍ السؤال نفسه كُلّما اشتدت الرياح وأقلقت الليالي الممطرة سكون ممالك الرقاد.

نظرتُ إلى وجهها فإذا هو يشحب بشدة وفي عينيها قلق وشَكْ تَحوّلا إلى أنين مفاجئ وتأوهات وراحت تهزُّ رأسها نفياً كأنما تبذل قصارى جهدها لتصديق حكايتي ولتُخفي عني اضطرابها من صحة مثولي أمامها.

-أفهم أنك عُدتَ إلى الأبد هذه المرة؟ أم تريد الرحيل ثانية؟

-يا أمي لقد أفرجوا عنّا إفراجاً أبدياً. وسأمكث معك كما تريدين.

وإذا بها ترفع نظرة مرهقة، وأيقنتُ أنها راحت تهذي وتُكلِّم نفسها كأنما هي نسيت أنها ليست لوحدها، وراحت تتحدث بلا شعور وكأنها هي نفسها لا تدري ما تقول:

-هل تعلم يا ملاكي أنك كنت لي دائما بمثابة رجل البيت وأنني أمضي إليك كل ليلة أستمع إلى بكائك يا ولدي؟

ثم وهي تنكمش على نفسها، رمقتني بنظرة جانبية وهي تتفحص أظفار أصابع يديّ وقدميّ الحافيتين بنظرة ملتهبة ملآى بالشفقة وسألتني برقة:

-وهل تعذبت يا ملاكي؟

-كلا يا أماه لقد انتهى الأمر بهدوء.

-ولكني في الكثير من الليالي أسمع نحيبك يصلني.

-ولكن يا أمي لعل كل ذلك مجرد تهيؤات.

وكأنها بتلك النظرة المذهولة حاولت أن تتعلق بي بَعْدَ أن شعرت بهول مجيئي، وأرادت أن تقول شيئا آخر ولعلها بدأت الكلام بشفتين مرتعشتين لكن ثمة من أعادها إلى سباتها فجأة بمثلما استيقظتْ .

أنهضتها وضممتها إلى صدري فإذا بها تشدَّني بقوة لَمْ أتوقعها ودفنتُ رأسي في حضنها وهي تردد بصوت صاف لَمْ تؤثر به العبرات :

ولكن قُلْ لي هل تعذبت يا ولدي؟

- كلا، قُلتُ لَكِ ،لقد انتهى الأمر بهدوء يا أمي.

عرض مقالات: