أمر ببناء مسجد أحمد بن طولون أو المسجد الطولوني، أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية سنة 263هـ /877م بمدينته القطائع القاهرية، ليصبح ثالث مسجد جامع بني في عاصمة مصر الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص، وجامع العسكر. المسجد الطولوني يعدّ أقدم مساجد مصر القائمة حتى الآن لاحتفاظه بحالته الأصلية. وقد بُني على شكل مربع على هدي طرز المساجد العباسية وخاصة مسجد سامراء وحاول الاقتداء بشكله، وبمنارته خاصة. يبلغ ارتفاع المئذنة 40.44 متر.
استعان بن طولون في تشييد هذا المسجد بالمهندس سعيد بن كاتب الفرغانيّ، المهندس المسيحيّ الذي كان معروفاً بمهارته في فن العمارة والبناء. ومثل ذلك كان مصمّم ملوية سامراء مهندس مسيحي عراقي هو دليل بن يعقوب المسيحيّ.
بنى الخليفة المتوكل جامع سامراء قبل الجامع القاهري بقليل يسير من الوقت، بين عامي 234 - 237هـ / 848 - 851م. كان أحمد بن طولون والي الدولة العباسية على مصر، ثم استقل بمصر عن الخلافة العباسية، فكان أول من يستقل بمصر، واستطاع القضاء على الحركات المعارضة له، وتمدّد باتجاه الشام بعد تكليف الخليفة العباسي المعتمد له إخماد الثورات في الشام.
الفارق المفهوميّ:
كان أحمد بن طولون مملوكًا جيء به إلى نوح بن أسد الساماني عامل بُخارى وخُراسان، فأرسلهُ بِدوره هديَّةً إلى الخليفة المأمون، وقد أُعجب الخليفة المأمون به، فكلّفه بوظائف عدَّة نجح في إدارتها، فولّاه رئاسة الحرس، ولقَّبهُ بِأمير الستر، وظل ابن طولون عشرين سنة يشغل هذا المنصب الهام. بعبارة أخرى عاش بن طولون زهرة شبابه وتكوّن ثقافياً في بغداد. ومنها يقيناً فكّر باستلهام طراز مئذنتها، ولعله، بغياب فن الرسم أو نموذج تخطيطي للبناء السامرائي: شَرَحَ لمهندسه فكرة الملوية التي يعرفها، طالبا منه إنجاز نسخة تشابهها. نفترض هذه الفرضية لسبب قويّ هو أن مئذنة ابن طولون تقلّد مئذنة سامراء بالقليل من البراعة وتدل على عدم معرفة المهندس لها ولا رؤيته لها عيانياً.
وبغض النظر عن هذا الافتراض فإن الفارق المنطقيّ الجوهريّ بين المُهنَدِسَيْن يقع في أن للعراقي مرجعية واضحة: الزقورات = جمع زقورة بينما لم يكن للمهندس المصريّ مرجعية مماثلة. وهذا فارق مفهوميّ كبير. مهندس سامراء يحتفظ بفكرة ما عن هندسة الزقورات ومنها، على سبيل المثال، زقورة أور التي تعدّ من أقدم المعابد العراقية، تقع على نحو 40 كم غرب مدينة الناصرية (340 كلم جنوب بغداد)، التي بناها الملك السومري أور نمو مؤسس سلالة «أور» الثالثة، سنة 2100 ق.م. زقورة أور مُستطيلة الشكل، أبعادها «200×150م»، وارتفاعها “45” قدمًا (ارتفاع الزقورات في العراق يقارِب عموماً ارتفاع الملوية إلا في حالات نادرة). وقد كانت بالأساس مكوّنة من ثلاث طبقات، يرتفع فوقها معبد مُخصّص لعبادة كبير آلهة المدينة الإله سين، ويُرتقى إليها بواسطة سُلَّمين جانبيين، وثالث وسطي، ثم أصبحت فيما بعد تتكون من سبع طبقات في عهد الحكم الآشوري. وهذا أقرب حكم زمنياً قد تعرفه الذاكرة المحلية العراقية. في الزقورات، ثمة مصاطب مستوية تتدرج بالحجم صعوداً من الأكبر إلى الأصغر، وتنتهي بالطابق الأخير من الزقورات الدي يتضمن معبدًا، يُسمى غالبًا جيجونو، أو كوكونوم في عيلام، وفي حالة بابل يسمى (“معبد [أو منزل] الزقورة”). تسميته الرافدينية الأصلية هى جيجونو gigunû ولا تقدم النصوص تفاصيل دقيقة حول شكل أو وظيفة الجيجونو. وكثيرا ما توصف بأنها سامية. ويمكن ترجمة gigunû في نهاية المطاف بــ “حرم، مزار مقدّس، معبد، قدس الأقداس”.
في حين أن استواء المصاطب يختفي في سامراء، ويحل بدلا منه شكل حلزونيّ دائريّ، من خمس طبقات، يتدرج بالحجم صعوداً من الأكبر إلى الأصغر، وصولا أيضا إلى طبقة المؤذن الأخيرة المسماة “جاون” في سامراء التي تماثل الجيجونو الرافديني .
مفهومياً، تقع فكرة الزقورة في الصعود المتدرّج نحو السماء، أو إلى أقرب نقطة منها، حسب المعتقدات الرافدينية القديمة.
وهذا المفهوم أفاد منه المهندس العراقي وقد أحاط ملويته من الخارج بسلم حلزوني بعرض 2 متر يلتف حول كتلة المئذنة بعكس اتجاه عقارب الساعة ويبلغ عدد درجاته 399 درجة. لماذا عكس اتجاه عقارب الساعة؟ يقال كأن الملوية على عناد وتحدٍّ مع الزمن، وهذا تأويل تأمليّ بعيد، فالمجموعة الشمسية كُلها تطوف ضد عقارب الساعة، وإليها ينتمي كوكب الأرض بل إن نجوم «درب التبانة» التي تحتوي على نحو 250 بليون نجم، تدور جميعا بالاتجاه نفسه، وكذلك الطواف حول الكعبة يجري عكس عقارب الساعة. نلاحظ أن سلّم المئذنة العراقية دون مَسند «Main-courante (سند السلم، درابزين).
جمالياً:
لكن الفارق المفهوميّ منحنا اختلافاً جمالياً معتَبَرا: فالملوية تقدّم بالأحرى عملاً حلزونياًspiral صافياً، من جهة شكلية، ووظيفيا من جهة عملية: مئذنة (نوع من جيجونو رافديني) للاستخدام الاجتماعي الدينيّ. عمل حلزونيّ “متصل المستويات” بشكل عضويّ، ويوحي بالدوران والحركة والصعود، بعبارة أخرى ينطوي التصميم الهندسي نفسه على مفهوم ضمنيّ: مفهوم الدوران. وإذا ما عرفنا أن هيئة الحلزون والشكل الحلزوني يقع في فكرة الدوامّة، لأن الزوبعة أو الدوامة تتخذ شكلاً حلزونياً متحركاً، وتعبّر عن حركة دورانية حول محور وهمي مستقيم أو منحنٍ، فأن المستويات المفهومية لملوية سامراء تتعدّد وتتراكب وتتعّمق.
أما مئذنة ابن طولون فلا شيء فيها من هذه المفاهيم، وهي تصنع بالأحرى سُلّماً معتاداً، يستدير قليلا مثل سلالم البنايات كي يصل القمة، وسلّمها خلافا لملوية سامراء مجهّز بحاجز أو مَسْند Main- courante (سند السلم، درابزين)، مما يوطّنه بالمألوف المعروف. وفي ظني لم يستطع المهندس المصري تخيّل بُنية أحرى للسلّم لا تخرج عما عهده.
أخيراً لو استعرنا مصطلحات فن التصوير، تبدو ملوية سامراء للبصر، في الفضاء، عملا ثلاثيّ الأبعاد حقاً، بينما تبدو مئذنة ابن طولون للبصر وفي الفضاء، ثنائية الأبعاد، كأنها عمل مُسطّح من دون عمق.