اخر الاخبار

شكل اورويل بصمة لا تمحى من ذاكرة المثقفين الاحرار المتعبين في روايات مثل “مزرعة الحيوانات” و “1984”، غادر عالمنا بصمت لكنه ترك وراءه صخباً لن يتوقف. وقد توفر الأستاذ سعد الحسني على ترجمة رواية جديدة له بعنوان “ارتقاء لأجل الهواء” صدرت مؤخراً عن مكتبة عدنان/ بغداد. هنا تقديم كتبه المترجم لهذه الرواية الفذة.

كنت قد نشرت ترجمة لرواية ( تسكعاً في باريس ولندن) لجورج أورويل بعد ان ترجمها في الستينات من القرن الماضي الشاعر الكبير سعدي يوسف. كان ذلك بمثابة تحدٍ لي في أن اضع نفسي بمقارنة غير عادلة مع شاعر كبير عاش بشكل او بأخر حياة مريرة لم أعشها أنا مماثلة لحياة أورويل. وظهرت الترجمة وحظيت ما حظيت به من أطراء ونقد وهجوم لم يفتأ لحد الان ، الأمر الذي جعلني مسروراً لأني بذلك قد أثرت صخباً نقدياً بناءاً في زمن أقل ما يقال عنه أنه زمن “ التفاهة”. ومن منطلق ان يكون لدينا أدب جاد أقنعت نفسي مرة أخرى بالعناية بكلمات أورويل مرة أخرى وأترجم روايته المشاكسة الأخرى ( أرتقاءً لأجل الهواء). ليست هذه الرواية هي من أهم ما كتب أورويل ولكنها يقيناً تلقي ضوءاً ساطعاً على نقطتين مهمتين في حياة كل كاتب مرهف الأحساس مثل جورج أورويل : الحنين الى  الماضي والقلق من المستقبل. وربما يتفق العديد من النقاد بأن هذه الرواية كروايته ( تسكعاً في باريس ولندن) ، لتقع في أطار الأدب الأعترافي او أدبيات السيرة الذاتية. هذا صحيح ولكن الرواية من خلال توازنات مختلفة في أطار تشكيلها كانت تبتعد تارة وتقترب تارة اخرى من السيرة الذاتية لكنها تمثل في الأطار العام عملاً أدبياً مرموقاً يمثل لفترة ما قبل  الحرب العالمية حين كان المزاج العام المشوب بالقلق قد أثر بشكل نفسي عميق على الناس عموماً وعلى الأدباء والمثقفين بشكل خاص. في ( أرتقاءً لأجل الهواء ) تتصاعد الأحداث تباعاً بطريقة درامية تاركة وراءها أهتمامات معينة يلقيها الكاتب مرة على عائلته ومرة على عمله ومرة على حياته الخاصة ومرة على بلده المعرض والمتاح للغارات الجوية الوشيكة التي قام بها النازيون بقيادة هتلر. أورويل لم يتخلى عن يساريته في التعامل مع سياق الأحداث التي بدأت براعمها في الظهور منذ نشأة بطل روايته مع عائلته الفقيرة في منطقة (باينفيلد) وعمله مع أبيه ثم بلوغه السن التي أتاحت له العمل بمفرده ثم زواجه وتكوين عائلته ثم توقه الكبير وحنينه الى الماضي بعد ان كبلته قيود الزواج والمستقبل الغامض بالف قيد.

هذه الرواية محاولة لأسترجاع الماضي ليس فقط من خلال الأسلوب النوستالجي بل من خلال اللجوء الى الديالكتيك المادي في أستحضار الماضي. فهل أستطاع أورويل حقا أن يستحضر الماضي ؟ هذا سؤال لم يدركه هو الا بعد أن خاض بطل روايته تجربة شخصية في الكذب على زوجته للذهاب الى مسقط رأسه مع شك كبيرشوش حياتها بانه كان مع أمرأة أخرى.

كل شيء قد تغير والأهم ليس البعد المكاني الذي أصابه التغيير بل البعد النفسي الذي جعل الكاتب في حزن نبيل بسبب غربته في المكان الذي ولد وترعرع فيه. هذا الأحساس ضَمِن عدم مطابقة الأزمنة مع بعضها فنحن غالباً ما نعيش غربة الدار في العصر الحديث. كان أورويل واعياً لذلك الأحساس الذي أقض مضجعه وتركه يدور في فلك الضياع، فهو لم يكن لجانب السلطة ولم تكن السلطة الى جانبه، كما لم يبق الى جانب الوطن ولم يحتضنه الوطن فأثر الرحيل ليحارب في أسبانيا فيكتشف، لأيمانه فيما بعد، انه كان يحارب من أجل الأنسان الحر في كل مكان . لقد أصبح أورويل مثل سابقه (أيرنست هيمنغواي) أيقونة للتمرد الصامت على الواقع المعاش في محاولة للخروج من عنق الزجاجة التي هي الحياة. وبينما أنهي (هيمنغواي) حياته بيده أنهت الحياة أورويل بيدها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقدمة ترجمة الرواية الصادرة اخيرا في بغداد