اخر الاخبار

ثمة مايبهج أحياناً حين نستعيد شيئاً من تلافيف حياتنا، على شكل فعلٍ او حركة لها وقعها في البناء الشخصي،وخاصة ان كان مزداناً بسماته الثقافية وروحه الإبداعي.ومتزامنا بالطبع مع فورة الروح الشابة والمتوثبة من أقانيم القراءات الأدبية والفكرية والسابحة في عوالمها الشعرية وبمعنى القبض على هدفٍ أسمى..

من هنا أستعيد الكتابة عن حدثٍ لي مرَّ وتجربة مدهشة ومحاولة جريئة أنا الخارج للتو من شرنقة سلطة الأب وتقاليد العائلة الكنسية في التشديد على الوجود الدائم في فضاء البيت!! أقول تجربة مدهشة في وقتها إلا وهي “ التمثيل”، “الصعود على خشبة المسرح” الأئتلاف مع مجموعة لتقديم عرض مسرحي، والأصطفاف لفكرة متقدمة وعياً وفعلا يمثلها المسرح في العرض الصامت “كلام بلا حروف” فكرة وأخراج “ عباس داخل”.. تلك الدائرة التي وقفت تحت بقعتها الضوئية مرة واحدة.. لم تعد لابسبب الرغبة في المعاودة بل للظروف التي مرت، وعجلات الأزمنة التي تناوبت على اعمارنا في جدلية الغياب والتخفي.

وأنا اعيد حساب تلك الخطوات المستمرة وربما المتمردة،التي قطعناها عبر شوارع مدينة “ العمارة” ومساحات الأرصفة التي ضمت سجالاتنا،وأسيجة الحدائق المورقة أنذاك التي أتكأنا عليها وشهدت احتدام حوارنا..كلها برفقة الصديق المسرحي “ عباس داخل حبيب” الطالب في معهد الفنون الجميلة في البصرة/ قسم المسرح / وانا الشاعرالفتي المتوهج بقراءاتي والملتاع بجمرة الآداب العالمية وفضاءاتها الساحرة..هكذا الخطى تشيرالى منتصف عام 1980،وشبح الحرب يلوح ويخط سواداته على بنايات المدينة....حوار أستمرلأيام والنقاش يحتدم،نسبر غور ماقرأناه وماعرفناه من ضفاف الكتب وبطون المجلات الدورية الصادرة أنذاك في فن الشعر والفكروالرواية والفلسفة...جذبني عالم المسرح في مفهومه النظري عبر طروحات المحتهد دوما صديقي ورفيق خطاي وأبن منطقتي المجنون بفن المسرح “عباس داخل حبيب” ..هذا الحوار الطويل عن المسرح يستعيد مني صورة “ التلميذ” بالدراسة الإبتدائية وحضوره عدد من العروض المسرحية التي كان يقوم بها النشاط المدرسي أنذاك..او ثمة فرق مسرحية تقدم عروض المسرح الشعبي على القاعة التي تكاد ان تكون وحيدة في المدينة “ قاعة مسرح التربية”..

قصيدة (( حفار القبور)) لشاعر الحداثة الأول (( بدر شاكر السياب)) كانت هي المتن النصي للعمل المسرحي،ومضمون العمل وشفرتهِ، البحث عن الحقيقة ومن ثم كشفها أمام الضوء في ظل أنظمة الفاشست..!! ولأن أرواحنا تواقة في حينها للجديد والمدهش ..بل وللجرأة،أصبحت الخطى تستعجل المسيرللتنفيذ والرهان مسبقاً على نجاح الفكرة/ العمل وجدة التنفيذ..وجدتنا متلهفين لتقديم النص عرضاً مسرحياً..أي نص ؟ نص خالٍ من الحوار..

من أين أتتك الجرأة ياعباس..؟ وما أنت عازم عليه بكل هذه الجرأة في إختلاف الفكرة والعرض،ماالذي يعتمل بدواخلك كي تنطق به، حركة وفعلامسرحياً جاداً لاصوتاً نجهرُ به أمام العامة وآذان السلطاتِ بكل وجوهها.فكان سيناريو((كلام بلا حروف)) نصاً وقف على عتبات التنفيذ وبأداء “ المسرح الصامت بلغة الجسد البانتومايم”...إذن هو عرض إدائي بتعبيرية عالية تفوق اللغة المنطوقة يصل حمولته المعرفية وشفراته الدلالية الى متلقٍ بأقرب صورةٍ وبتكثيفٍ عالٍ ومعمق.خطوة تحسب لنا كفريق عمل بحساب إختلافها في لحظتها ووقتها ومنها..وفي قرارة إنفسنا وخطواتنا الجامحة، لا بدلالة التوثيق التاريخي للعروض المسرحية العراقية في هذا الفن المحدث تحديدا..

السيناريواكتمل..وأفكار العرض معدة للانطلاق، ويبقى المنفذون أي “ ممثلو العرض المسرحي” هنا أئتلف عدد الأصدقاء ضمن فريق العرض تحدوهم رغبة تجسيد شخوص السيناريوتحت توجيهات قائد الأوركسترا “ عباس داخل”...أصدقاء تعاطفوا مع الفكرة وحملوا جدة التنفيذ (( ظافر سلمان “ رحمه الله”...سعد جلوب..سلام عبد الحسين..حامد عبد الرحمن..عامر عيدي في الجانب اللوجستي للمسرح إدارة وتقنيات ضوئية..ميسون خليل الممثلة المجتهدة دوما بدورالمرأة،والمقيمة الآن في مهجرها في إستراليا.وأخرون شكلوا مجاميع صغيرة في مشهدية العرض المسرحي.

هل تكفي ثقافتك لمخاطبتهم بالعرض المسرحي في العام 1981، أم انك امام فعل ومعايشة وتقمص دورٍلإقناعهم بحضورك وبالتالي يحقق لك قيمة هذه التجربة الثرة.ومابين شدٍ وجذب وتعديلاتٍ “رقابية” وتخفيفا من التأويلات السياسية وإشاراتها الضمنية في العمل،وطروحات الزملاء الممثلين واستنتاج افكار جديدة تتحول الى حركة وتجسيد جسدي معبروهذا هوديدن العمل “كلام بلا حروف” وجدة طرحه وتمثيله،فكان التغييروالحذف بيننا كخلية نحل، عاملين على إيصال لغة الأشارة وحمولاتها الدلالية الى متلقٍ نحسبه “نموذجي”..!!

ذلك أن قائد الأوركسترا” عباس داخل” بلغته الإحترافية، وخبرته المسرحية وذكائه وفطنته، تدارك كل مايشوب العمل من تفسيرات في غير مكانها،وحافظ على إيقاع التمرين والبروفات واستطاع إدارة هذا الحوار الصامت وبفعل درامي شكله الممثلون، مستنطقاً فينا لغة الجسد وصراخ حوارنا الصامت (( البانتومايم))..

وحانت ساعة العرض على مسرح قاعة التربية ، وسط حضورجمهور نوعي شغل كراسي القاعة...أبتدأ العرض وإطفئت الأضواء، وتحرك الممثلون وبدأت المشاهدة ،وأنا “ أهرس الساعات في الخندق” على حد قول درويش..!!

قبل دخولي خشبة المسرح لإداء دوري “ الدفان” إمتزجت لدي مشاعرجمة هي من مخاوف وزهوٍوجرأة وإزدياد نبضٍ قلب..كلهما مجتمعة قادتني للدخول ومواجهة عتمة القاعة وأنفاس الحاضرين...القاعة في حالة “ إظلام”...اندفعت تحت بقة الضوء الأصفرلأداء دوري “ الدفان” الباحث عن الحقيقة ممثلة بوردة وغصنها، هو يدفنها بعيداً عن عيون الرقباء والعسس الليلي ،ثم يحفر قبرها ليريها للعالم اي “ الحقيقة” ...أدخل في دهشة وترقبٍ متلفتاً من حولي، خائفاً من المخبرين الذين شوهوا وجه الحقيقة او المعنى الإنساني،بعد ان دفنت الوردة في يومٍ ما، هاأنا استعيد إحيائها،واخراجها من قبرها، أضمها على صدري، أداعبها ، أشمها، ترافق هذا المشهد موسيق تصويرية مؤثرة..ولحظة انغماسي في هذا العشق الإنساني،  يباغتني بطعنني من الخلف في ظهري نصل سكين جارح،تشلٌ حركتي، آخرُ صريعاً مضرجاً بدمائي، مشهد مؤثريؤكد مقتل الحقيقة ومعناها الإنساني في كل الأزمنة وبمختلف الأمكنة...مشهد أثارالحاضرين على صدقِ إدائهِ ــ يقابلني في الجهة اليمنى من المسرح الفنان “ ظافر سلمان” في اداء مدهش وصراعه في كيفية الصمود امام وحشية القوى لأنتزاع أدميته ومعناه، بتأديته الدوروتفجير طاقاته الجسدية وتعبيرية اصابع اليدين في فعل مسرحي مؤثروخلاب،شكل ثيمة مؤثرة لهذا العمل “ المتفرد” .. لتنثروسط المسرح وتحت إضوائه الفنانة القديرة “ميسون خليل” لغة فرحٍ ممزوجة بأسى رقصها التعبيري الذي يشي بإعادة الحياة وفصولها.

كانت قصيدة السياب “ حفار القبور” مجسدة شخصية تستأنس بدفن الموتى الوافدين اليها من قتلى الحروب والنزاعات والموت بأنواعه مقابل ان يقبض ثمن عمله هذافي دفن الأجساد التي ترده وفي أي مكان من المقبرة “ أنه الرزق الحلال” ،فيما أخذ سيناريو عباس داخل قلب المعادلة ووضع شخصية “ الدفان” في كشف الحقيقة ومعناها الإنساني وتعرية وجوه الظلام وقوى الدكتاتوريات والفاشست.

فولدرالعرض المسرحي / البانتومايم “ كلام بلا حروف”

عرض مقالات: