اخر الاخبار

ريح

أسمعني كلامًا غاضبًا.. كان الجدار وحده الذي نتّكئ عليه يسمعنا، وكان الشارع فارغًا.. كنت أصغي إليه وأنا مصدّق لما يخرج من بين أسنانه كما النار التي تحرق الشخوص والواقع والبلد والشعب.. كانت صور المرشحين معلّقة مثل يافطات تطرد الغربان من أعمدة الكهرباء والفئران من حواف الجزرات الوسطية.. رأيت نار كلماته تطارد الصور وتحرقها فتحوّلت المدينة الى حريقٍ هائلٍ من الشتائم النارية والوعيد الذي لا يحيد.. ملعون من ينتخبهم.. كانت الجملة تشبه وقودًا كلّما خبت نار الكلمات الهائجة مثل ثيران في سباق إسباني.. تفّرقنا وأذني ملسوعة بصيوانها وقناتها وشحمتها كأنها أثرٌ من نار.. مساء كنت أمشي في ذات الطريق باتجاه ذات الجدار.. لمحت عيناي تجمّعًا مكتظًا بالأجساد، فيما تتصاعد الهتافات مثل بالونات محمّلة بغازات طائرة الى عنان السماء، ترفعها الملائكة المرسومة من كلمات تخرج من نبرة صوت مرّت على لسعات أذني.. اقتربت من التجمع.. رأيت ورقةً مرفوعةً أمام زعيمٍ كان اسمه قبل ساعات يخرج ملعونًا من حنجرةٍ كافرة بالواقع.. كانت الورقة تطير منها الحروف، هاتفةً بحياة الرمز الذي يجب أن يعاد انتخابه.

ديمومة

رسموا جثةً على الرصيف.. فتحوا أبواب المقهى على مصراعيه .. كانت المقهى رائجة بالأحاديث مثلما كان أحد جدرانها يتلوا آياتٍ بصوتٍ رخيمٍ عن الصدق والحسد والنميمة.. امتدت الألسن من داخل المقهى الى الرصيف وأحاطت بالجسد الممدّد بلا حراك، ثم توالى نزف الكلام فتبلّل الرسم بقطراتٍ دبقةٍ من دم كثيف.. رفعوه بألسنتهم وداروا به الى جهاتٍ لا يعرفون أين أوصلتهم.. انتبهوا الى إن الدم صار أكثر نزفًا وتغيّر لون أرضية المقهى.. لحظة رأوا عينيه تتوسّعان، وفمه يرسم ابتسامةً، فيما كان لسانه قد تحرّك ليلقي آخر قصيدةٍ له على نغمٍ أطلقته شاشة تلفزيونٍ معلّق في أعلى الجدار.

المدير

كلما ذهبت الى المدينة أمرّ عليه، مدير المدرسة الابتدائية التي تعلّمت فيها أوّل الحروف.. لا أحد يسميه باسمه ولقبه,. كانوا يقولون (مدير حسين).. في السنوات الأخيرة وبعد إحالته على التقاعد ظلّ يجلس بشكل يومي على كومة من التراب أمام الزقاق الذي يقع فيه بيته.. البلدية لم ترفع هذه الكتلة الترابية احتراما له، فالجميع هم تلامذته وأجياله التي تخرّجت من بناية المدرسة.. هناك أمرّ عليه.. يبتسم، يتذكّر رغم هزال عوده.. اسمعه ( ولك عليوي فادت) ابتسم وأقبّل ظاهر كفّه ورأسه.. يترك دمعةً محبوسةً في عينيه، واترك دمعًا يخرج من عيني وأنا ابتعد عنه.. سمعت انه مات.. ذاع صيت رحيله في المدينة ونعته أجيال التلاميذ عبر الفيسبوك.. المسافات بعيدة، لم أستطع حضور مأتمه.. بعد أشهر شددت رحالي، أخذتني قدماي الى هناك، بي شوق لأقبل كومة التراب، أو أقف أمام يافطة المأتم.. رأيت وجهه يستقبلني، سمعت صوته يقول، لا عليك بالمكان الذي كنت أجلس عليه، فقد تبادلنا الأدوار.. كدت أبكي، أحنيت رأسي كما في كل مرّة.. شعرت به يضحك.. لوّح لي بكفّه التي قبّلتها، يطاردني صوته (كلّ لنا كومة تراب).

عرض مقالات: