تعودت أن أزور منزلاً قديماً لبعض أصدقائي الموحين لي دائما بسيماء النباهة والذكاء. وجريا مع العادة كانوا يعلقون على جدار المضيف المهيب مشجراً للنسب مكتوباً بالزعفران وبخط رقعة أخاد يثير في الناظرين دوافع تأملٍ غير معهودة عندهم سلفاً بل، ويبعث فيهم موجات تيهٍ لذيذةٍ مع النفس. يشغل المضيف كما أرى حيزاً طوليا على قدر واسع من مساحة الدار التي شيدوها على أرض الحقول الزراعية التي ورثوها عن أبيهم المميزعن أقرانه بالمعرفة والثراء والتي آلت إليه عن أبيه "الميرزا حمد" ذائع الصيت بالعرفان والوجاهة والكرم. أنجذبت نحو المشجر برغبة ان أفك مايلوح عليه من غموض في بعض بيانات الأسماء المذكورة في خطوط النسب، وما يبدو في طلاسم وشروحات وهوامش عديدة، قرأت تفاصيله بتمعن وكررت القراءة مراراً ووصل ذهني إلى ما أصبو إليه حتى بلغت اليقين بأن هؤلاء الاصدقاء هم صفوة من (أحفاد أولئك الناجين في الفُلك من الطوفان) ومع الوقت ترسخت قناعتي بذلك. مرةً وأنا بينهم مددتُ يدي الى صندوقٍ قديم من خشب الزيتون اللماع مركون في زاوية المضيف، ما أن مسته اصابعي حتى فاضت السكينة في أوصالي وبتّ أكثر طمأنينة من كلّ وقت، فتشجعت ان أرفع غطاءه لاكتشف جماليات رحلتي في عالمهم البكر في نظري كانوا ينظرون إلى حركتي برضى وابتسام، فطالعت محتويات الصندوق وكانت موزعة بين دواة زعفران ودواة حبر وأربع سلايات قصب للخط ومجموعة أعواد جاوي مبرية بحرفية وإتقان وشفرات متعددة للبري ومجموعة مسابح من السندلوس والكهرب والكهرمان وخواتم من فضة مرصعة باحجار ثمينة من عقيق، خيل لي ان رائحة زكية تملأ حاسة شمي تنبعث من وريقات قديمة صفراء تآكل جوانبها، استقرت بأريحية بين محتويات الصندوق تناولت الورقة العليا منهن ونشرتها أمام عينيّ لأروي فضولي فلفت نظري نص مزخرف ببهاء مخطوط بعود جاوي بتقانة ماهرة : (أي محنة تواجهك حين يغرق العالم بين يديك وأنت تراه، حتما لن تُفرّط فيه ولن تدعه يضيع في العدم، لك الله يا سيدٌ في الرؤى والمحن القاسية، فلستَ ضعيفا لتشكو زمانك، أو تترك الخلق إلى هاوية، إن حكمتك في نجواك إلى المطلق، وحصافتك في البحث عن الحلول في السر والعلانية، وجهدك الجهيد إنما هو لتكون أنت كما دُبج اسمك في اللوح، ونارك تخفي نورك وشما في تعاقب العصور، مشيتَ الى النهر وغفا الموج بين ذراعيك طائعا وديعا، قريبا منك كمشيمة الحالمين.. تذاهنتما انت والماء عند بعضٍ طويلا، حتى ضحكتما بنبرة صادحة.. قال "النهر" في رقة وحكمة راجحة وكنا نسمع الموج بليغا فصيحا: ياسيد السهول و الشطآن والتلال، جميعنا نسمع ما تقول فاعمد لما يوحى إليك في التنزل المبارك وأصنع من الفُلك سبيل النجاة فإذا جاءك أمر، و فار التنور وقيل (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) نجوتَ بهم، وجددتَ فيهم متوك الحياة. لم تعد يداي قادرتين على غلق الصندوق وإرجاع الغطاء إلى محله فالنور آخذ بناصيتي نحو كلّ فج عميق..
قصة قصيرة.. وفار التنور
- التفاصيل
- كامل الدلفي
- الطریق الثقافي
- 68