اخر الاخبار

ثمة من أعطوا وليس في حسبانهم أن يأخذوا؛ أعطوا عصارة شبابهم، عصارة مشاعرهم, عصارة أرواحهم؛ واجهوا بثبات وبسالة لا تفي بوصفها العبارات المألوفة أو الصياغات المعروفة, جادوا بأغلى ما يمكن أن يجود به الانسان.

عاشوا الملاحقات والتشريد والاعتقال وتحملوا أقصى صنوف التعذيب وقساوة السجون.. واجهوا الموت في سوح المعارك لأجل أن يكون الوطن حرا وشعبه سعيدا اللذان تنادت فتعاضدت وتآمرت عليهما كل قوى الظلام الداخلية والخارجية.

سميع داوود الشاعر والإنسان واحد ممن ثبتوا في سوح المنازلة لكي يوفوا حقوق الوطن وشعبه من دون أن يأخذوا منهما أي شئ سوى محبة الرفاق والأصدقاء ومن عرفوهم عن قرب.

سفر خالد ذاك الذي خطه بسيرته العراقية الاصيلة .. سميع داوود المتربي على حب العراق؛ ترابه وأنهاره ونخيله، فجاد من أجله بأقصى ما تصله حدود الجود، النفس والنفيس؛ فيفني سنيِّ شبابه في المعتقلات والسجون والمنافي، لكن كل ذلك الظلم والعسف والعذاب لم يثنه عن ان يصدح بحب عراقه شعرا مميزا له قوة  فكره وصدق مشاعره وانسانية روحه.

في أواسط خمسينيات القرن الماضي ابتدأت تجربة الفتى سميع داوود في الأدب والحياة، في الثقافة والسياسة ولم تخطئ الانظار مرآى فروسيته في أوسع ميادينها. في السياسة انيطت به أصعب المهمات، وفي الادب انعكست في شعره آصالة التراث وحداثة حركة الشعر الحر، وواصل عطاءه الشعري - الذي امتد عدة عقود- اكتنازه بالمنجزات الفنية للشعر العراقي منذ رواد حركة الريادة في تجديد الشعر العربي مرورا بالتجريب في ستينيات القرن الماضي عراقيا وعربيا وصولا الى شعر ما بعد الحداثة.

تواشجت عرى صداقتنا فور خروجه من سجن نقرة السلمان حيث قضى مدة سجنه البالغة خمس سنوات تنقل خلالها بين  مختلف سجون عصابات انقلاب شباط 63الدموية والحكومات التي خلفتها ,وكان ذلك في خريف عام 1968

واستمرت حميمية صداقتنا خلال العقود اللاحقة حتى رحيله الى العالم الاخر، وما تقطعت وما تبدلت وما فترت كما لم  تتبدل طباع الشاعر الوديع ولم تفتر، فلقد ظل وديعا ونبيلا وهادئا، برما بامور الحياة الشخصية لم تغره مكاسب او مناصب.

في اواخر ثمانينيات القرن الماضي اضطرته ظروف المعيشة للعمل في محل صغير للصياغة في منطقة شعبية من بغداد وصادف ان اراد احد اصدقائي من الادباء التوانسة (القاص ابو بكر العيادي ) شراء حلية، هدية لزوجته فاصطحبته الى مدينة الحرية حيث يوجد محل الشاعر - ضمانا للجودة والثمن المناسب - وبعد أن حصل العيادي على ما أراد، سحبتُ دفترا من رف في المحل وقلت له: اقرأ لهذا الشاعر الصائغ ؛ وبعد أن خلٌص العيادي نفسه من اندماجه بما يقرأ اطلق عبارات منبهرة وبنبرة ساخنة:- يا رجل تركت صوغ القصائد وانصرفت الى صوغ القلائد, شعرُك هذا خير من كثير مما سمعنا في المهرجان.

بادرته قائلا : الشاعر سميع داوود بعيد عن المنابر الحكومية.

وحقا هكذا كان  شاعرنا الفقيد, فلم يدن منها طيلة العهد السابق، وحتى بعد انهيار ذلك النظام عام 2003 ظل على زهده وعزوفه عن الظهور والانتشار مكتفيا بمشاركات قليلة ومتباعدة،  لكنه لم ينقطع عن كتابة الشعر، وعن بحثه الدائب عن التجديد والتجويد، حياتياً وفنياً .

إن برم الشاعر سميع داوود - الذي فجعنا برحيله وأمثاله من المبدعين بالمكاسب والمراتب نبلا ورفعة، يضع مسؤولية ايفائهم حقوقهم في ذمم كل من يؤمن بالفعل الاصيل الخلاّق والكلمة الصادقة. لعل هذا الملف يؤدي قسطا من الوفاء لمن وفى حقوق العراق.