بينما كنا على القارب عصر يوم أحد في بحيرة صغيرة متفرعة عن النهر رأينا شابا على ظهر حصان يسوق بضعة أحصنة مع الضفة. قال بأن اليوم رائع، وسأل إن كان الماء عميقا هناك. قال له منكت من فرقتنا بأن الماء هناك عميق بحيث يغرقه، فضحك وسار بأحصنته الى الأمام مع النهر، ولم نوله انتباها كثيرا. في اليوم التالي تجمع مشيعون عند خمارة في ركن الشارع وتداولوا بينهم أن يشربوا شيئا بانتظار العربة التي تحمل التابوت. أمضوا بعض الوقت يرقصون رقصة الجيغ على أنغام بيانو في ردهة البار، وأمضوا الوقت الباقي يعبثون ويتشاجرون. كان الراحل عامل نقابي شاب، في حوالي الخامسة والعشرين من العمر، غرق في اليوم السابق وهو يحاول أن يجعل أحصنة تعبر سباحة بحيرة الماء المتصلة بنهر دارلنغ. كان غريبا في المدينة تقريبا، وقد لعب كونه نقابيا دورا في إقامة تشييع له. وجدت الشرطة أوراق نقابة في متاعه واتصلت بمكتب الاتحاد العام ليعطي معلومات عنه. هكذا عرفنا. كان لدى السكرتارية القليل من المعلومات عنه. إن الراحل “روماني كاثوليكي”، وأغلب أهل المدينة ليسوا كذلك، غير أن النقابية أقوى من العقائدية. على كل حال إن الشراب أقوى من النقابية، وعندما وصلت عربة الجنازة كان ثلثا المشيعين غير قادرين على التشييع. بلغ عدد أفراد الموكب خمسة عشر منهم أربعة عشر يتبعون إناء الروح الفارغ، وربما لم يكن أي واحد من هؤلاء يمتلك روحا حاله حال الجثة، ولكن هذا غير مهم. أربعة أو خمسة من المشيعين، وهم من عمال الخمارة، استعاروا مركبة يستخدمها المالك لنقل المسافرين من والى محطة القطار. كانوا غرباء عنا نحن المشاة، ونحن غرباء عنهم، وكلنا غرباء عن الجثة. جاء فارس بدا كأنه سائق ماشية والتحق بتشييعنا المغبر واتبعنا ما يقرب من مئة ياردة جارا حصان التحميل خلفنا، غير أن صديقا له عمل إشارات هائجة واستعراضية من شرفة فندق، يضرب بيده اليمنى الهواء كالصنارة ويؤشر بإبهام يده اليسرى الى الخلف من فوق كتفه باتجاه البار، فانسحب سائق الماشية ولم يتبعنا مرة أخرى. كان غريبا عن العرض بكامله. سرنا أزواجا، وكان يوجد ممن سار منا هكذا ثلاثة أزواج. كان الجو حارا جدا ومشبعا بالغبار، والحرارة تقذف بضراوة اشعاعات مبهرة عبر كل سقف حديدي وكل جدار خفيف اللون بمواجهة الشمس. تم اغلاق خمارتين احتراما الى أن مررنا. أغلقوا باب البار والزبائن كانوا يدخلون ويخرجون من مدخل جانبي أو خلفي لبضع دقائق، ونادرا ما يتذمر رجال الدغل لأي جانب غير ملائم لوضع كهذا عندما يكون دافعه تشييعا، فهم يحترمون الميت احتراما بالغا. في طريقنا الى المقبرة مررنا بثلاثة اشخاص يجلسون في الجانب الظليل من السياج، أحدهم كان سكرانا... سكرانا جدا، والاثنان الآخران غطى كل منهما أذنه اليمنى بقبعته، احتراما للراحل، أيٌّ كان، ورفس أحدهما السكران وهمهم له بشيء، فاعتدل، وحدق، ومد يده بعجز الى قبعته، رفعها جزئيا وأعاد وضعها على رأسه. ثم بذل جهدا عظيما ليتمالك نفسه، وقد نجح. وقف، وأسند ظهره الى السياج، ورمى قبعته، ووضع قدمه عليها ندما، وبقي حسير الرأس حتى مر الموكب. سار الى جانبي سائق ماشية طويل القامة عاطفي تمثل بسخرية بأبيات لبايرون ملائمة للمناسبة، مناسبة للموت، وسأل بفكاهة حزينة إن كنا نفكر بأن بطاقة الرجل الميت سيتم تقديرها “ هناك”، وكان يقصد بطاقة اتحاد نقابات العمال، وقد كان الرأي العام يشير الى أنه سيتم تقديرها. قال صديقي:” هل تذكر عندما كنا في القارب أمس، ورأينا رجلا يسوق بضعة أحصنة بمحاذاة الضفة؟”.
-” أجل”.
أومأ الى عربة الموتى وقال :” حسن، ذلك هو”. فكرت مليا وقلت :” لم أنتبه اليه جيدا. قال شيئا، أليس كذلك؟”.
-” أجل. قال بأن اليوم رائع. كنت ستلاحظه أكثر لو أنك كنت تعرف بأنه يوشك أن يموت تلك الساعة، وأن كلماته تلك ستكون آخر ما يقوله لأي إنسان في هذا العالم”.
قال صوت عال من الخلف :” مؤكد. لو كنت تعرف لكنت أطلت المحادثة”.
تهادينا في السير عابرين سكة القطار وعلى الطريق الترابي الذي يوصل الى المقبرة. تحدث بعضنا عن الحادث وعبروا عن مزاعم بأننا أنفسنا لدينا مجالات للنجاة قليلة، وعندها قال أحدهم :” ذلك هو الشيطان”.
رفعت نظري فرأيت قسا يقف في ظل الشجرة قرب بوابة المقبرة. كانت العربة مهيأة وألواح المؤخرة مفتوحة. غطى المشيعون آذانهم اليمنى بقبعاتهم فيما رفع أربعة رجال التابوت خارجا ووضعوه عند رأس القبر. وقف القس، وهو شاب شاحب هادئ، في ظل شجيرة نمت عند رأس القبر. نزع قبعته ورماها بلا اهتمام على الأرض، وبادر بتأدية واجبه. لاحظت أن واحدا أو اثنين من الوثنيين أجفلوا عندما نقّط الماء المقدس على التابوت. سرعان ما تبخرت القطرات، والبقع السود الدائرية الصغيرة التي خلفتها غطاها الغبار سريعا، غير أن لون أماكنها أظهر رخص ورثاثة القماش الذي غطي به التابوت، فقد بدت سوداء قبلها والآن تبدو رمادية قاتمة.
إن جهل الإنسان وحبه للمظاهر، حتى هنا، جعل من التشييع مهزلة. صاحب خمارة ضخم، رقبته كرقبة الثور، وملامحه الثقيلة المغطاة بالبثور تعبر عن أشد الجهل، قام برفع قبعة القس المصنوعة من القش ورفعها فوق رأس مبجله بحوالي إنجين حتى نهاية الاجراءات، وللتذكير نقول بأن الأب كان يقف في الظل.
بدا القبر ضيقا تحت التابوت، وتنفست بارتياح حين انزلق التابوت الى الأسفل بسهولة. رأيت تابوتا علق مرة، في رووكوود، وتوجب إخراجه بصعوبة ووضعه على تراب القبر عند أقدام الأقارب كسيري القلوب الذين غمغموا بوهن فيما باشر حفارو القبر بتوسيعه، ولكنهم لا يقومون بالعمل على نحو ملائم في الغرب. لم يكن حفارنا عديم الرحمة تماما أو يعوزه الاحترام للقيمة الإنسانية الموصوفة بأنها “مشاعر”. حك بمجرفته ليزيل ما سقط من كتل طينية على التابوت، وحاول كذلك أن يسوي التربة في قعر الحفرة بضربات من مجرفته، غير أن تربة أرض نهر دارلنغ ترتد وترتفع مع ذلك.
إن هذا غير مهم، لا شيء مهم. إن سقوط كتل طين على تابوت غريب لا يبدو مختلفا بأية حال عن سقوطها على صندوق خشبي عادي. على الأقل أنا لم ألاحظ أي شيء مروع أو غير عادي في الصوت، ولكن، ربما واحد منا، الأكثر حساسية، ذكره هذا الدفن بدفن منذ زمن بعيد، إذ كان سقوط كل حفنة من التربة على التابوت يرج قلبه رجّاً.
أهملت ذكر الرفيق الشيخ مكسور القلب، برأسه الأشيب محنيا ودموعه المدرارة تجري على خديه المتجعدين. كان غائبا، وربما كان يسكن منطقة قصية. حذفت لأسباب مماثلة الإشارة الى النداوة المريبة في عيون الوحشي الملتحي ساكن الدغل واسمه بيل. فشل بيل في أن يحضر، والنداوة الوحيدة في عينيه أحدثها الحر. أهملت “ الغروب الأسترالي الحزين” لأن الشمس لم تكن تنحدر وقتها، فالدفن جرى منتصف النهار بالضبط.
كان اسم رجل الدغل الميت هو جم، ظاهريا، ولكنهم لم يعثروا على صور، ولا خصلات شعر، ولا أي رسائل غرام، ولا أي شيء من ذلك النوع في متاعه، ولا حتى إشارة الى أمه، فقط بعض الأوراق المتعلقة بأمور النقابة. أغلبنا لم يعرف الاسم حتى رأيناه على التابوت. عرفناه بوصفه “ ذلك الفتى المسكين الذي غرق بالأمس”. قال صاحبي سائق الماشية الذي كان على معرفة به وهو ينظر الى الصفيحة :” إذن فاسمه جيمس تايسون”.
قلت :” لماذا! ألم تعرف ذلك من قبل؟”.
تبين فيما بعد أن جيمس تايسون ليس اسمه الحقيقي، بل هو الاسم الذي عُرف به. على أية حال هو دُفن به، وأكثر “ الصحف اليومية الأسترالية العظيمة” ذكرت في أعمدتها للأخبار الوجيزة بأن شابا اسمه جيمس تايسون غرق في فرع من نهر دارلنغ يوم الأحد الماضي. سمعنا فيما بعد ماذا كان اسمه الحقيقي. إلا أننا وإن توفرت لنا فرصة قراءة اسمه في “ عمود الأصدقاء المفقودين” فلم نستطع تقديم أية معلومات لأم أو شقيقة أو زوجة ثكلى، ولا لأي واحد ينفعه ذكرنا له فلقد نسينا الاسم أصلا.
While the billy boils, Henry Lawson. 1896
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هنري لوسن 1876 - 1922 شاعر وقاص استرالي وقد كتب أكثر القصص الأسترالية شهرة. هو الأديب الأول في بلده الذي أقيم له تشييع رسمي ووضعت صورته على الطوابع ويقام كل سنة مهرجان بذكراه ويوجد متحف باسمه.