اخر الاخبار

أتذكر مقولة يعد صاحبها أن الكتاب الذي لا يثير جدلا، ليس له أي قيمة معرفية أو مبدئية، ويتأسف على المجهود الذي صرفه المؤلف في سبيله، وأضاع سنوات من عمره.

المقولة هذه لا تنطبق على علي الوردي، فالرجل كلّ ما كتب وسطره يراعه، أثار جدلا واحتداما، وبين الفينة والفينة، يظهر من يُريد الانتقاص من الرجل بغية اسقاطه ثقافيا وفكريا، وحتى اجتماعيا، وعزله عن المجتمع السّوي؛ ذلك لأنّ الوردي مختلف عنهم، إذ لا يقرب إلى مناطقهم الفكرية، وإذا قرب فهو بهدف تفنيد تلك الأفكار، حيث يراها لا تنسجم و المنطق الصحيح، ولا مع الفلسفة الحقّة. يعتقد الوردي أن كل ما لا يخدم الانسان ويحفظ كيانه، ووجوده وكينوته، ولا يعينه على تجاوز همومه اليومية، ولا يسهم معه في معيشته، أو رفع الحيف عنه، هذا الأمر لا يستحق الاهتمام، ولا يحق له أن يتبع تلك الافكار الطوباوية، ويرفع من شأن كل من يتبناها، كونها أشياء تبعده عن الطريق الذي يروم السير فيه، ليصل بالتالي الى سُبل العيش الكريم.

لقد أنتقد الوردي الكثير من القضايا التاريخية والاعتقادية، وبعض السفسطات، وعالجها بموضوعية وبعلمية تامة، معتقدا ومنتقدا في الوقت عينه، قضايا تاريخية كثيرة دخلت الى موروثنا الفكري والديني والاجتماعي، وهي بعيدة كل البُعد عن الحقيقة، اشياء وضعها أناس بهدف الحصول على الكسب المادي، والتقرّب إلى السلطان. بل هناك قضايا كثيرة، تُعد من المسكوت عنه ولا يمكن التقرب منها، كونها محظورة، ومناطق تشوبها الخطورة والمحاذير؛ لكن الوردي بشجاعته اقتحم عرينها، وخاض في مياهها، ورسالته ايضاح الغامض، والكشف عن الالتباس، وتوضيح الملتبس.

وهذا ما لا يطيقه تجار الكلام، ومروجيّ الأفكار النمطية، فثارت ثائرة الكثيرين نتيجة طرحه المباشر ونقده اللاذع بلا مراوغة، لأنّ الوردي لا يكتب بغموض وبضبابية.

وقد تنبه لمن أرادوا أن يسيئوا إليه، فكان يرد على البعض منهم، ذلك بكل طبعة جديدة من كل كتاب من كتبه. وفي كتابه “مهزلة العقل البشري” انتقد الكثير من القضايا التي وجدها مخالفة للعقل، وحرص على أن ينبه المثقفين وغيرهم بل وحتى الناس البسطاء، من مخاطر تلك القضايا التي دُست في التاريخ، وبنت عليها عقائد وقيّم، حيث أخذها النفعيون بلا تمحيص ولا كتاب منير؛ لذا أتهموا الوردي بالانحراف، وبالمروق على الدين، وأنه تبنى أفكار الغرب ويريد أن يسوقها في مجتمعاتنا العربية والاسلامية؛ حتى نجد الوردي في سنواته الأخيرة حُجم، بل وانعدم دوره، ولم تسلط عليه الأضواء، واللقاءات الصحفية، حيث أرعب السلطة بأفكاره التقدمية والتنويرية.

فكان يرد عليهم ويفحمهم، ويطالبهم بالرد على أفكاره، فلم يرد إلّا القليل منهم، وأكثر ردودهم كانت على اللغة التي كان يستخدمها، والمنطق الذي يتبناه، ويكتب على ضوئه إذ كان الرجل يكتب بسلاسة وبلا تكلفة، فاتهموه بأنّه لا يجيد اللغة، وتركوا القضايا المصيرية والجدلية معلقة على حبال الزمن، واكتفوا بالأخطاء اللغوية فحسب، وطفقوا يحاسبوه عليها.

يقول الوردي رداً على من يطعن بعقيدته: “هناك فرق كبير بين عقيدتي وعقيدة هؤلاء المتزمتين. إنهم قد تأثروا بأفكار المترفين وأخذوا يفسرون التاريخ في ضوء ما أملاه عليهم السلاطين. 

ويضيف: “دأب رجال الدين عندنا على اعتبار قومهم خير الأقوام. ولهذا نراهم لا يعرفون من دنياهم سوى تمجيد عقائد قومهم وثلب عقائد الآخرين. فهم يرون الفضيلة في التعصب الطائفي أو القومي أو القبلي. والفاضل في نظرهم هو الذي يدافع عن طائفته في الحق وبالباطل، وينصر أخاه ظالما ومظلوما”.

لهذا اعتبروا الوردي خصمهم العنيد، بدل أن يردوا عليه بأناة وموضوعية، ومنطق سليم، لأنّ البحث العلمي يحتاج المرونة والتدقيق، واخذ الامور برحابة صدر وبلا تعصب، لأنّ منطق التعصب لا يصل بنا إلّا للتعصب ذاته، لكن الأمور سارت على هذا المسار.

واعتقد هؤلاء أنّه ليس هناك من يجرؤ فينتقد أفكارهم، أنهم وحدهم من يمتلكون الحقيقة؛ لكنّ عالم الاجتماع استطاع أن ينتقدهم ويفند آرائهم وذلك في ضوء البحث العلمي، والمنطق السليم، حاملا يراعه ويكتب بكل ثقة وبصريح العبارة. وطبيعي فأنّ هذه الجرأة تحتاج إلى قلب قوي ورأي شجاع، وبالمقابل لابد أن يجد مَن يثور ضده، ويتهمه بشتى التهم حتى يستطيع أن يخرسه، كما كان يرى الكثير من منتقديه.

ان الوردي ناقد حقيقي، ومفنّد كبير للأفكار الدخيلة، والمبادئ القديمة الرجعية وللرؤى البالية. لهذا تعرّض الرجل للنقد والانتقاد، وهو امر طبيعي في مواجهة الأفكار، وعالم الكتابة والبحث، فكلٌ يرى من منظاره الخاص، بأنه يمتلك جزءا كبيرا من الحقيقة، ويروم الوصول الى الناس.