اخر الاخبار

لعل أكثر الثورات في العالم الثالث إشكالية من حيث الالتباس السياسي والاجتماعي – ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.

انها ثورة في التغيير المتدرّج للبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فما تعليل التغيير الذي بدأ الاطاحة بالبنى الفوقية قبل تغيير البنى التحتانية ؟

وبمعنى آخر: أكانت “ الفئات الفقيرة “مهيأة لقيادة هذا النوع من التغيير الدراماتيكي أم  انها لا تمتلك أدوات التغيير، فقامت القوة المسلحة نيابة عنها بقيادة التغيير؟

ينبغي فك الإلتباس بين نهج الانقلاب وبين منهج الثورة على الاحتلال ، فإن كان تنظيم الضباط الأحرار من قام بالانقلاب ، فلماذا قام بتصفية الملك فيصل الثاني، وتعليل هذا السلوك الخشن في تاريخ العراق السياسي؟

لقد كان الانقلاب نقيض الثورة ومحتواها الاجتماعي في التغيير، فقد فككت الثورة سلطة المشايخ ملاّكي الاراضي وتجارة المدن الكبيرة ، وانحازت الى العمال والشرائح الدنيا والوسطى ، وتحالفت مع الفلاحين والعمال والكادحين ، وهذا أول إصطفاف طبقي سياسي مع الشعب .

وعلى الرغم من تنازع المد القومي والمد اليساري على مبادئ الثورة ، فقد كانت الثورة أقرب الى الطبقات الشعبية المقهورة من التنظيمات والقوى السياسية ، مما أنجزت أهم المشاريع التنموية وقوانين الاصلاح الزراعي، والجمعيات الفلاحية والثقافية، وألغت أشكال الاستغلال الاقطاعي ، بما في ذلك قانون رقم 80 لعام 1961 لتحرير الاراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية العالمية ، وسنّت قوانين شركة النفط الوطنية وقانون الاحوال المدنية الشخصية ، واعلنت الخروج من حلف بغداد ، وانتهاج سياسة الحياد الايجابي والانحياز الى قوى التقدم ، وقد أنجزت هذه المشاريع والقوانين وغيرها في خمسة أعوام ، وتلك علامة فارقة في تاريخ الثورات في العالم الثالث .

وعلى الرغم من ان الخطأ الأكبر يكمن في ان عبد الكريم قاسم قد تمسّك بمبدأ “ الفردية” فيما القاعدة الشعبية العفوية غير مؤهلة لقيادة الثورة بالاتجاه الصحيح والواقعي .

وبذا كانت الثورة اكثر استجابة لاستراتيجية تغيير النظام بالقوة المسلحة ، وإلا ّ فما تعليل الانقلابات العسكرية المضادة للثورة من الداخل ؟

أذن إستخدام القوة المسلحة – كانت ضرورة حتمية، لأن النظام الملكي والقوى الرجعية المرتبطة به لا تسمح بأي شكل من أشكال التغير السياسي للواقع في العراق المحكوم بالاستعمار البريطاني .

وكان ينبغي أن تُعنى الصفحة الأولى من الثورة بـ “ تبديل رجال الحكم “ بالقوة المسلحة من خلال الانقلاب على الواقع الفاسد أصلا ً ، وآن تعنى الصفحة الثانية من الثورة بالانتقال من نظام ملكي منتدب الى نظام جمهوري حرّ ، وأن تقوم بتقويض نظام الاقطاع في ريف الكفاف ، والانحياز الايجابي الى قوى التقدم في الخارج .

وأن كان البعض يرى بأن ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ؛ لم تخرج عن إطار الانقلاب العسكري، فإن تاريخ العراق السياسي كلّه تاريخ مأساوي من أجل الوصول الى السلطة ، وغالبا ً ما يتعرّض الثوّار الى التعذيب حتى الموت في السجون أو يعدمون.

اما الثورات ومنها ثورة 14 تموز 1958، فإن “ بئر التآمر “، غالبا ً ما يطلع منه الخونة الذين يلعبون بمقدرات السرد الثوري أو بما يصطلح عليه بـ “ الثوري اللاثوري”.

لقد أراد عبد الكريم قاسم أن ينأى بالثورة خارج المزادات الحزبية والسياسية ، وخاصة بعد أن تقدّمت الثورة بخطى راسخة في طريق الانجازات الدالة ، كما قاوم قوى الرَّدة والانحراف وحده حتى النفس الأخير.

انتهج عبد الكريم قاسم – حكما ً فرديا ً ، ولكنه لم يكن حاكما ً دكتاتوريا ً ، لهذا إنماز عن القادة الذين حكموا العراق بانه أكثر وطنية وشعبية بين الجماهير ، وإلاّ فما تعليل شخصيته الكارزمية في المخيال الشعبي ؟

كما انه شخصية إشكالية إختلاقية مثيرة للجدل ، وخاصة في كيفية إدارة الثورة ، والكيفية في مواجهة القوى المضادة لها ، كما انه شعبي ولكنه غير شعوبي ، متوازن وسط مراكز قوى غير متوازنة ، يستمد حيواته المتجدّدة في الثورة من الشعب وليس من السلطة ، لهذا لم يمت في التاريخ .

اذن المنجزات التي حققتها الثورة – تفوق سنوات عمر الثورة الخمس ، لأنها تكشف عن تحولات نوعية مستوعبة لتناقضات الواقع العربي ومتقدِّمة عليها ، وأكثر استجابة لتحديات الاستعمار البريطاني في التمسّك بهويتها الوطنية والانفتاح على قضايا الأمة العربية ، ودعم حركات التحرّر في بلدان العالم الثالث.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد وقاص/ رئيس تحرير مجلة “الاديب الثقافية”.

عرض مقالات: