اخر الاخبار

مع أن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 ، هي ثورة وطنية شاملة جاءت لتلبي مصالح الشعب العراقي ومطالبه طيلة أربعين عاماً من الحكم الملكي المقيد بمعاهدات واتفاقيات استرقافية ذات طابع استعماري، فيه اليد الطولى لبريطانيا وسفيرها في بغداد، لادارة  دفة السياسة العراقية، الا أن الثقافة العراقية وجدت في هذه الثورة الوطنية المنقذ الحقيقي لها من التعسف والاضطهاد والخنق ومصادرة الحريات الفكرية ، وحرية التعبير الذي كانت تفرضه سلطات الأمن والمخابرات آنذاك. ولذا فقد جاءت هذه الثورة لتزيح هذا الكابوس الثقيل عن كاهل المثقفين والثقافة العراقية، وتطلق العنان للأصوات الحبيسة والمقيدة بسلاسل الرقابة والتابوات وتفتح الطريق أمام المثقفين لتشكيل تنظيماتهم واتحاداتهم ونقاباتهم الثقافية المهنية، فكان أن تأسس لأول مرة في تاريخ العراق اتحاد للادباء والكتاب العراقيين عام 1959 ، برعاية شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري، كما تأسست و للمرة الاولى ايضاً  نقابة للصحفيين وأخرى للفنانين، فضلاً عن عشرات من تنظيمات المجتمع المدني والمنظمات الثقافية والاجتماعية والانسانية. وقد راح المثقفون والكتاب يبحثون عن مخطوطاتهم وكتاباتهم التي خبأوها خوفاً من العسس والمخبرين، وبدأوا بإعادة نشرها، كما راحوا يبحثون عن من غيبهم النظام من الكتاب بسبب مواقفهم الفكرية ومنهم القاص  عبد الرزاق الشيخ علي الذي اختفى فجأة بعد خروجه من السجن  عام 1957 ، ونشرت ايضاً الكثير من الكتابات التي كتبها السجناء في سجونهم.

ويمكن القول بكل ثقة ، بأن حالة من الانتعاش  قد اجتاحت الأدب والثقافة والمسرح والفنون التشكيلية، وانجز خلالها الفنان الكبير جواد سليم نصب الحرية والفنان فائق حسن لوحة ساحة الطيران السيراميكية، وسلسلة من لوحات محمود صبري عن شهداء الجزائر ، فضلاً عن أعمال فنانين كبار أمثال خالد الرحال وكاظم حيدر وشاكر حسن آل سعيد وخالد الجادر ، وحافظ الدروبي، وكتب خلال تلك الفترة الشاعر الكبير مظفر النواب أجمل قصائده “ الريل وحمد” التي فتحت الطريق أمام تطور الشعر الغنائي الشعبي، ووضعه على سكة الحداثة الشعرية، وقد انتعشت خلال هذه الفترة حركة البحث العلمي والدراسات الفكرية والسياسية، كما ازدهرت الصحافة العراقية وتنوعت اتجاهاتها ومدارسها ومستوى تصميمها واخراجها، وكانت هذه الصحافة تولي اهتماماً خاصاً للثقافة والادب والفن وتفرد صفحات يومية وأسبوعية منظمة لها، حتى يمكن القول أن هذه الفترة كانت بمثابة عرس كرنفالي حقيقي للثقافة العراقية.

ومازلنا الى اليوم مدينون لثورة تموز التي عمقت الاتجاه الانساني والاجتماعي في الثقافة، وشجعت الاتجاهات الجديدة والتجريبية للادباء والكتاب والفنانين الشباب والهمتهم هذا النسغ الانساني والديموقراطي للثقافة العراقية المعروفة بانحيازها للانسان والعدالة والحرية.

ثورة تموز هي القنديل الذي اضاء عتمة ليل طويل امتد لمدة اربعة عقود من الحكم الملكي واربعة قرون من الاحتلال العثماني، وهي بمثابة بروميثوس الذي قدم شعلة النار والمعرفة للشعب العراقي وللثقافة العراقية: ولذا فهي جديرة بأن تكون عيداً وطنياً، متجذراً في الوجدان الشعبي لشعبنا العراقي، لأنه لا بديل عنها، وهي لهذا الضوء الساطع الذي قاد شعبنا  ليحتل هذه المكانة والآفاق المجد لثورة تموز العظيمة ومنجزاتها وللابواب التي فتحتها لشعبنا وللثقافة العراقية.

عرض مقالات: