اخر الاخبار

يعدّ العراق البلد العربي الذي ينفرد بتاريخ سياسي تكثر فيه انتفاضات وثورات وانقلابات، بدليل    ان اول انقلاب عسكري في الوطن العربي هو انقلاب بكر صدقي في ( 29 تشرين الاول 1936 ).   وما كان هذا الحدث عابرا في تاريخ العراق،  فقد اطاح بحكومة ياسين الهاشمي ومنها نشأت فكرة تدخل العسكر الفعلي في الحياة السياسية، تجسدت بشكل اعمق وبأبعاد اوسع في الانقلاب العسكري الذي قام به عدد من الضباط الاحرار بقيادة عبد الكريم قاسم  ضد الحكم الملكي ،الذي شهد بعد وفاة المؤسس الاول للمملكة العراقية الملك فيصل الاول، عدم استقرار سياسي زمن ابنه الملك غازي الأول(1933) وصل الى تشكيل ست وزارات بين عامي 1933 و1936  ، خلفه الملك فيصل الثاني الذي كان الامر بيد خاله الوصي الامير عبد الاله بن علي  ليستمر النظام الملكي في العراق 37 سنة   انتهى  في 14 تموز 1985.  الحقيقة التاريخية والسياسية  ان 14 تموز 1958 ثورة شعبية، وشكل حدثا تاريخيا ، ليس على صعيد العراق بل وتاريخ الشرق الاوسط بكامله والعلاقات الدولية ايضا .وفيه تغير دور العاصمة بغداد ايضا.. لتتحول من مدينة شكلت حلفا باسمها (حلف بغداد) في 24 شباط 1955 تقف بوجه الحزب الشيوعي في الشرق الاوسط. ليس هذا فقط بل ان كاريزما الرئيس جمال عبد الناصر كانت بارزة، ومع ذلك توحّد معظم العراقيين مع الزعيم عبد الكريم قاسم .

البرلمان العراقي يستثني 14 تموز

في ( الأربعاء 22 ايار 2024) ، اقر البرلمان العراقي قانون العطل الرسمية ، مستبعدا ذكرى سقوط النظام الملكي وتأسيس الجمهورية العراقية في 14 تموز 1958، فيما اقر  اعتبار (عيد الغدير) عطلة رسمية! .ومع ان امام سلطة الحق هو اكبر من ذلك ، فانهم كانوا يعلمون ان اقراره يثير اشكالاً ، ولا يكترثون ان في اقراره مفارقة مخجلة هي ان الأمام علي قال يوم تولى الخلافة “ أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي فان خرجت بغيرهما فأنا خائن”.. فيما الذين يدّعون انهم احفاده واخلص مؤيديه  صاروا اصحاب ملايين ومليارات وعقارات وشركات، وافقروا 13 مليون عراقي ، باعتراف وزارة التخطيط.. معظمهم شيعة!

السبب .. سيكولوجي خالص

شخّص كتّاب مرموقون الأسباب السياسية والفكرية والدينية اسباب الغاء البرلمان لـ(14 تموز)..ولما حللوا وشخصوا نضيف بأن احد اهم الاسباب لهذا الأستبعاد هو سيكولوجي خالص يتعلق بشخص عبد الكريم قاسم تحديدا، نوجزه في الآتي:

من منظور علم نفس الشخصية فان الأنسان يشعر بالنقص حين يكون الآخر افضل منه في صفة أو اكثر، وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة او قائدا في السلطة.. ولهذا فأن من تولوا الحكم بعد 2003 يغيظهم جدا ، ويشعرهم بالأزدراء حين يقارن العراقيون بينهم وبين عبد الكريم قاسم . فالرجل كان يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته. فقد كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة. وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم. وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع. ولقد منحه العراقيون لقب(ابو الفقراء)..لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، فيما حكّام الخضراء حولوا الوطن خرابا ، وافقروا 13  مليون عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020)، وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، و ليس فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري :(لا ابو عكال ولا ابو عمامة ولا الافندي ولا لجنة النزاهة.. كلنا نبوك من القمة للقاعدة) .. ووصف مرجعيتهم الدينية لهم بانهم في الفساد.. حيتان !

ولهذا فقد تعمدوا ان يميتوا ذكراه لأن في احيائها سيعقد الناس مقارنة ساخرة ( والعراقيون يجيدون فن السخرية) بين ما صنعه من اعمار في أربع سنوات وبين ما صنعوه من دمار وخراب خلال عشرين سنة، سيوثقها التاريخ انها افشل وافسد واقبح ما شهده العراق في تاريخه السياسي. فمعظم الذين استلموا السلطة بعد التغيير( اميركا هي التي سلمتها لهم!) ، كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة، وصاروا يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية، وعزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى..ولهذا فهم تقصدوا ان يميتوا ذكر عبد الكريم قاسم.. لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم. والمخجل ان الكثيرين منهم صاروا محتقرين شعبيا ، وآخرين صاروا سخرية في وسائل التواصل الأجتماعي..ولا يخجلون حتى من هتاف العراقيين (باسم الدين باكونه الحراميه).

وحكّام الخضراء فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائل عبد الكريم قاسم.. اقبحها أن الفساد في زمنه كان عارا فيما صيّره الطائفيون شطارة، واصبح العراق في زمنهم افسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسؤولين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!،وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة، وصاروا يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم.. لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكونها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي.. دكتور وبروفيسور.. بلغ الستين!،فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة،ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.

مثال ذلك انه اختار عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد.. الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم ان كثيرين اعترضوا وقالوا له كيف تعين هذا الصابئي.. فأجابهم :(عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع)..فيما اعتمد الطائفيون مبدأ الانتماء الى الحزب والطائفة في المواقع المهمة بالدولة وان كان لا يمتلك كفاءة ولا خبرة ولا نزاهة.

وكان العراق في زمانه..دولة، فيما صار بزمن سادة الخضراء دويلات، بل ان كل وزارة في الحكومة هي دويلة لهذا المكون السياسي او ذاك،وما كانت فيه دولة عميقة او ميليشيات.

وكان عبد الكريم محبّا للعراق ومنتميا له فقط، ولهذا كانت المواطنة، بوصفها قيمة اخلاقية، شائعة في زمنه بين العراقيين، فيما انهارت بزمن الطائفيين، وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن.. وتلك اهم وأخطر قيمة اخلاقية خسرها العراقيون.. ولهذا فان الطائفيين يكرهون عبد الكريم قاسم، لأن احياء ذكراه توحّد الناس ضدهم.. ولأن الضد الجميل في الأخلاق يبرز الضد القبيح فيها.

ولهم اقول حقيقة سيكولوجية أخيرة.. ان استبعادكم (14) تموز لتميتوا ذكرى عبد الكريم قاسم، سيولد العكس، وأن هذا الرجل سيبقى في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الاساطير، فيما انتم اذا بقيتم على هذا الحال سوف لن يبقى لكم ذكر، ومؤكد ان العراقيين سيلعنون معظمكم بعد مماتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

عرض مقالات: