اخر الاخبار

1

وصل الممثل الإيمائي الى آليتاليا مع متاع قليل، رزمة بورق أسمر ومعها ما بدا أنه حقيبة سفر نسائية. سؤل عن محتويات رزمة الورق الأسمر فأجاب :” حبل”، ولما سؤل ما الغرض من الحبل أجاب:” لربط رزم أكبر”. لم يقصد أن يقول نكتة، ولكن الممثل الإيمائي كان مسرورا عندما ضحك المراسلون. لم تكن إثارة الضحك ميزته القوية، فقد كان شهيرا بإثارة الرعب. بالرغم من أن حالة كآبته كانت مشهورة عبر أوربا فإن القليلين خمنوا أن لديه أمله في المستقبل، وقد شرح قائلا :” الحبل هو صلاة أصليها دائما”. فك رزمته على مضض وأراهم الحبل. كان أزرق، وحين مُدَّ على طوله بلغ ثلاثة وخمسين مترا. ظهر الممثل الإيمائي والحبل على الصفحات الأولى لصحف المساء.

2

تملك الرعب المشاهدين في الحفلات الأولى بسهولة، فلم يكونوا مهيئين لمواجهة قدرته على محاكاة الرعب، وكانوا يفرون من كراسيهم باستمرار، ليعودوا فيما بعد مرة أخرى. ظهروا على الأبواب خارج قاعة الحفلة الموسيقية مثل الغواصين مرتدي الأقنعة بوجوه حمراء وكانوا مرتبكين لأنهم وجدوا العالم كما تركوه.

3

كُتبت الكتب عنه، وكان موضوعا لفيلم حاصل على جائزة. غير أنه في صباحه الأول في بلدة ريفية كان متألما لأنه وجد أن إداءه لم يعجب أحد نقاد الصحف والذي كتب:” لا أستطيع أن أرى الفائدة من إثارة الرعب في الجمهور”. جلس الممثل الإيمائي في فراشه يفكر في وسائل لجعل إدائه مرحا.

4

جذب كالعادة نساء لديهن الرغبة في تسكين العواصف الثائرة في قلبه. كان يلازم والمرأة فراشه كجراحين مدفوعي الأجر يقومان بعملية جراحية لحالة صعبة. كان كلاهما مشبوبي العاطفة وبارعين، ولم يعانيا الهزيمة بسهولة.

5

لقد كان متفاجئا على نحو ما لمواجهتها له بالكره، وقد اتهمته خطأً بأنه لا يفعل شيئا سوى محاكاة الحب في حياته الخاصة، فقال:” مؤكد أنك إن كنت تكرهينني الآن ، فلأنك أنت التي كنت تقلدين الحب، ولست أنا”. قالت :” لقد كنت دائما نذلا حقيرا، ما الذي في تلك الرزمة؟”. أجاب بيأس :” قلت لك من قبل، إنه حبل”. قالت:” أنت كاذب”. لكن حينما حل الرزمة فيما بعد وجد أنها فتحتها لتتأكد من صحة قصته. كان فهمها للحبل تاما. قطعته قطعا صغيرة مثل قطع السباغيتي في مطعم قذر.

6

خلافا لنصيحة منظمي الجولة الفنية خصص حفلتين بكاملهما للحب والضحك، وكانتا كارثتين. ساد شعور الجمهور فيهما بأن الحب والضحك، في حالته، ليسا موحيين كالرعب.

تم الإعلان عن العمل الثاني سريعا :” ساعتان من الأسف”، وبيعت البطاقات بسرعة. شرع بإداء قصير للحب مستخدما إياه بوصفه لا أكثر من تمهيد للندم الذي استرسل فيه بتمثيل مركب ومؤثر ترك الجمهور شاحبا ومرتجفا. ابتلع الجمهور الرعب مثل سائحين شجعان يأكلون أشد البهارات حرارة في مطعم هندي.

7

قالت :” إن الذي تفعله هو استثمار لحالاتك العصابية. أجدها شخصيا مقرفة، مثل شخص يستعرض قدمه المشوهة أو مثل متسولين أتراك بتشوهات غريبة”. لم يقل شيئا. لقد كان مغيضا بعض الشيء من افتراضها أنه لم يفكر في هذا مرات ومرات من قبل.

لقد فسرت سلبيته معها بسوء فهم خاطئ تماما على أنه ازدراء لها، وصفعته راغبة في إيلامه، وابتسم ابتسامة رائعة، راغبا في إيلامها.

8

لامست قصة الحبل الأزرق مخيلة الجمهور، فبيعت رزم صغيرة بورق أسمر على أبواب حفلاته، واستطاع وهو واقف على المسرح أن يسمع ضوضاء فتح الرزم، وخطرت في باله صورة سيدات أميركيات عجائز يشترين سجادات مسلمين بهوس وشغف.

9

لقد وقع، وقد أنهكه وأضعفه جدول البرامج الثقيل، ضحية الشكوك التي كانت تخزه بإلحاح لسنوات. فقد كل إحساس بالاتجاه وقضى ساعات لا تحصى منعزلا، جالسا في غرفة فندق يستمع الى مكيف الهواء. فقد الثقة في الفوائد الاجتماعية للرعب المسيطر عليه. لم يعد يفهم حاجة الجمهور لتجربة الأشياء نفسها التي تمنى بشدة الهرب منها.

أفرغ منفضات السجائر بحركات مُلحَّة. فتح رزمته ذات الورق الأسمر ورمى بقطع الحبل الصغيرة في الحوض.

عندما غار تيار الماء الأبيض ظلت طافية مثل حطام من كارثة بحرية.

دعا الممثل الايمائي الى مؤتمر وسائل إعلام ليعلن أنه لن يكون بعد المزيد من الحفلات. بدا بأعينهم صغيرا وأجنبيا وتفوح منه رائحة الثوم. نظر ممثلو وسائل الاعلام بلا حماس. راقب أقلامهم المترددة بقلق راغبا دون نجاح أن يكتبوا كلماته.

أعلن باختصار بأنه رغب في أن يفتح موهبته لتلقي تأثيرات أرحب، وستكون مهاراته تحت تصرف الناس الذين سيكونون أحرارا في طلب خدماته لأي غرض وفي أي وقت. بدا جلده شاحبا ولكن عينيه براقتان مثل عيني دمية تميمة من الفرو تومئ برأسها على طنف النافذة الخلفية لسيارة أميركية.

11

طلبوا منه أن يصف الموت فانشغل بالتقاط الصور بالكاميرا الفورية لسائليه.

12

طلبوا منه أن يصف الزواج فناولهم مرايا صغيرة رخيصة مكتوب على ظهرها صنعت في تونس.

13

انحدرت شعبيته. ساد الشعور بأنه غامض خارج قدرة الناس العاديين على الفهم، وجوابا على هذا التمس أسئلة أسهل. لم يبخل بشيء من نفسه في سعيه ليسعد جمهوره.

14

طلبوا منه أن يصف الطائرة فطار ثلاث مرات حول المدينة، مؤذيا نفسه أذى طفيفا فقط عند الهبوط.

15

طلبوا منه أن يصف النهر فأغرق نفسه.

16

كان هذا لسوء الحظ، الإداء الأخير والأقل نموذجية له، هو الإداء الوحيد الذي جرى تصويره في فيلم. كان يوجد حشد صغير من الناس عند ضفة النهر، لا أكثر من ثلاثين. يختار رجل صغير مرتب يرتدي بدلة رمادية السير عبر مجموعة من الأطفال بدوا أكثر اهتماما بدمية كبيرة بلاستيكية على شكل كلب يلعبون بها. يخطو الى داخل النهر الذي كان أصلا عميقا عند الضفة، ويبقى رأسه ظاهرا فقط للحظة أو لحظتين، ثم يختفى. ينظر رجل شرطة نظرة توقع من فوق الحافة، كأنه ينتظر منه أن يعاود الظهور. ثم يتوقف الفيلم. من الصعب ونحن نشاهد إداءه الأخير أن نتخيل كيف يحرك هذا الرجل انفعالات كهذه في قلوب الذين رأوه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: Collected Stories - Peter Carey

بيتر كاري* (مواليد 1943) روائي وقاص أسترالي مقيم حاليا في الولايات المتحدة ولكن مواضيع كتبه استرالية دائما، له مجموعتان قصصيتان و14 رواية بضمنها (التاريخ الحقيقي لعصابة كيلي ورواية لوسيندا) الحائزة كل منهما جائزة البوكر، كما حاز جائزة الكومونولث مرتين، وجائزة ميلز فرانكلن ثلاث مرات، وغيرها. كتب مسرحيتين، وحولت ثلاثة من أعماله الروائية والقصصية الى أفلام.

عرض مقالات: