اخر الاخبار

يتشكّل الخطاب الشعري في تجربة الشاعرة (آمنة عبد العزيز) على شكل تدفّق وبوح انثيالي وتفصح في مجموعتها (أرتّب الأنثى بداخلي) الصادرة عن (منشورات جلجامش – بغداد 2019) عن اشتغالات جمالية واسترسالات رومانتيكية تشتبك بها مع الواقع في محاولة لتجاوز انكساراته وترميم تفاصيله على وفق سعي وتوظيف لكلّ عناصر التدفّق الشعري واستحضار كلّ اللّمسات أو التوجّهات وعناصر الإفضاء والجمال من انتقاء المفردة إلى تشكيل الصورة الشعرية، إلى استحضار القاموس (الأنثوي) لمخاطبة العالم، وإلى الميل لتكوين وابتكار الرؤى بإيجاد اللغة والصور والمعاني المبتكرة والناتجة عن نزعة لخلخلة المنطوق التقليدي باتّجاه الطاقة الانزياحيّة بمختلف تمظهراتها التركيبية، والدلاليّة والإيقاعية، وهي تتجاوز سمات القصيدة الرومانتيكية ونسقها التقليدي باتّجاه نصوص تملك فضاءها المرتكز على الخيار الجمالي ورهان السؤال الوجودي وتقمّص رؤية التحليق بحثاً عن معانٍ وصور وتشابكات تعيد انتاج الجمال بكلّ أبعاده ودلالاته، وجعل جماليات البوح الأنثوي هو المرتكز الذي يعيد تشكيل لحظة التوهّج والانبعاث وتتحوّل الأنثى إلى فينيق يحترق بعطره ليعلن عن إزاحة كلّ السكون والبلادة، فالشاعرة منشغلة إلى حدّ التوق في رسم الجمال الذي تنتمي إليه وتصدّره من ذات مأهولة بالسؤال الشفيف ومنطلقة باتّجاه عالم يحاصر البوح ويغتال رقصة الانبثاق.

وفق هذا السياق والاشتغال الجمالي تتحوّل نصوص المجموعة إلى إضمامة صادحة من السؤال الوجودي والجمالي وتتحوّل الرؤى إلى (مانفستو) لإعلان جدل التوق ليحاصر جدل الانطفاء وليضيء عتمة الانكفاء وتسعى النصوص بكلّ بسالة لوضع طوق الأنثى كإيقونة لتحرير كلّ التراكم باتّجاه إفصاح وبوح يحلّق بعيداً، ويعيد انتاج الشغف والألفة والتناغم.

نصوص المجموعة بكلّ ضوعها وعطرها وحميميتها تؤسس لخطاب يرمّم الجدب ويعيد تشكيل الواقع المأزوم بتأثيث أُنثوي، إنها تؤنث البوح والتشاكل الوجداني وهي تجعل من النسق الرومانتيكي مدخلاً للمساءلة والاستنطاق والانبعاث المتعالي، والتحديث إلى العالم من خلال مرايا وعطور واستلهام يجعل العالم يرتدي لغة الزهور وبهاء الأمكنة وبريق الأحلام المؤجّلة، ولذا نجد النصوص ترتكز على محايثة عميقة للتعبير عن قاموس أُنثوي يتشكل على إيقاعه شكل ودلالات الفيض الوجودي الذي يضيء لحظات الزوال والعتمة والإنكسار وتتحوّل القصائد إلى نسق تحريضي واحتجاجي ضد كلّ أشكال القبح والخمود .

الفضاء الشعري في هذه المجموعة فضاء متحرك ينطوي على تأرجح قصدي مؤطّر بالصور والبحث عن الاستثنائي واللاّمألوف في التراكيب والتشكلات والإزاحات، وسيميائية العنوان بوصف الإضاءة الجمالية والدلالية الأولى يتضمّن حركيّة الصورة والاستهلال بالفعل المضارع الذي يدلّ على الديمومة والاستئناف ويؤشر شكل البوح الذي يصدر من أنثى العالم وأنثى المعنى الوجودي، وليس الأنثى بمعناها وتكوينها الفسيولوجي.

لعلّ وعي الشاعرة بالارتهان إلى نسق وتأثيث اللّحظة الشعريّة جعلها تقدّم الطلاء الأنثوي كوسيلة للجذب والاستدراج لكنّها في جوهر التشابك الرؤيوي جعلت من فكرة (التأنيث) إطاراًَ لرؤية وجوديّة وفلسفية تقوم على استثمار وتوظيف أحد موجّهات ودلالات الجمال الأنثوي بوصفه الطريق لإزاحة هذا الاجتياح الفحولي الذي يخنق أنفاس الواقع واتساقاً مع هذه المقاربة ليس من المتعذّر اكتشاف الصراع السايكولوجي الذي تشيعه النصوص بين الثنائيات المتضادّة (الرجل/ الأنثى) (القوة/ الضعف) (القبح/ الجمال) (الحلم/ الكابوس) (الماضي/ الحاضر) (الحركة/ السكون) (المكان/ الهجرة) (البوح/ والضجيج) (اللون/ العتمة) (الجسد/ الروح) (الخضوع/ التمرد الوجدودي اليومي) (الترويض/ التحليق) (الموت/ الحياة)... الخ، وقد عبّرت في نص (حيَّ على الحب) عن هذه الإرهاصات في تأنيث العالم كوسيلة لإزاحة القبح القار :

“له لون كلّما رسمته                    /  تراقصت الحنطة فوق مبسميه     / لم اكتف برسمه

قدّمت أوراق جنوبيتي /    فأقالني قبل خفقة   /      قلت: 

ما بك أيّها المرسوم من أقواس فرحي  /  ختمك الأحمر سراب

لم لا تجعله أمراً لله؟ قال : إذن سنعلق قلوبنا لإشعار قادم”  (المجموعة: 11).

إنَّ تأمّل مفردات النص تكشف عن هذا التوجه الجمالي عبر جعل النص عبارة عن أسئلة وحواريّة وجوديّة تعلي من شأن البوح والحب، والضربة الختامية تعكس نوعاً من الرهان وانتظار المأمول، ومفردات (اللون) و(الرسم) و(الخفقة) و(أوراق جنوبيّتي) كإحالة للعمق والقوّة و(أقواس الفرح) وجملة (ختمك الأحمر سراب) تعكس روح التحدّي ووجود هذه البلادة التي تخنق لحظة التوق والانبثاق.

عرض مقالات: