التأثر (الروحي والنفسي) بأبسط الأشياء أصبح سمة عامة من سمات الشاعر، بل هي خصيصة يختص بها وحده، وستظل هذه الخصيصة تلازمه، آناء الليل واطراف النهار، طالما قلبه ينبض بالشعر وبالمشاعر، وفؤاده ينبض بالأحاسيس الصادقة.

ولا عجب حيث أنّ الانسان هذا الحسّاس، المفرط في احساسه، كونه يتعامل بالمفردة الجميلة، وبالمعاني السامية، لابد وإن يكون كذلك، لأنّ متطلبات ادواته التي يشتغل عليها، هي من يحرك به ذلك الاحساس. وبالتالي لابد أن ينتج معانٍ جزيلة، ترتفع وتسمو بها الكلمة الصادقة، النابعة من سويداء قلبه، وإلّا لماذا نسمي الشاعر شاعرًا، لولا هذه الخصيصة أو البذرة اليانعة في عمقه الشعري؟.

الشاعر خالد القطان، يمتلك السمة المميزة، ففي مجموعته الشعرية “نهارات وطرقات موحشة” اصدار أتحاد الأدباء والكتاب، لسنة 2023، نص “المدينة التي أكلت عيون ابنائها”، نتبين اختزال المشاعر الجياشة، المصاحبة للتوهج والتوق لعيون الوطن (النص كتبه الشاعر في سورية عام 2000)، وهو احساس غريب، لأنّ ابتعاد الشاعر عن الوطن وراءه عودة قريبة، حددها هو بنفسه، حاضر الشعور بالغربة.

“أيتها المنافي

أنكِ أباطيل

خدعة

وطلقة مؤجلة

خطوات تلامس أرصفة

الضياع”

دائما ما يتعرض الشعراء الى المنفى، ودائما ما يسطلون بنار الغربة، وبالابتعاد عن الأهل والاحبة، ذلك إن الشاعر أما أن يكون معارضًا لنظام الحكم الدموي الذي يمارسه الحاكم المستبد، وأما بسبب قصائده التي تعطي الجمهور حافزًا لمقاومة هذا المستبد، واعادة الحقوق المستلبة، وللمطالبة بالحرية الفكرية، ورفع الحيف عن المواطن، بعد أن سيطرت أجهزة القمع على كل مفصل من مفاصل الدولة، وراحت تعبث بكل شيء، من اقتصاد ومن ثروات وامكانات الدولة برمتها، بينما الفرد يرزح تحت خط الفقر والمعاناة، وشظف العيش.

الرسالة الانسانية والوطنية التي يحملها الشاعر بين خافقيه، وهي التي تحفزه لأن يكون معارضًا ساخطًا فيلهب الجماهير وينمي روح التمرّد على السلطة. لذلك تجد الشاعر هو الشوكة التي تقف بعين المستبد، وتحول بينه وبين المنام، ليبدأ الحاكم، بسجنه أو نفيه، أو يتخذ بحقه اجراءات قاسية، تصل حد الموت. فكلمة المبدع هي بمثابة السيف، بل الصاعقة تنزل على رأسه، لهذا يحاول أن يستميله ويغريه بالمناصب، والهبات والعطايا لنجد البعض يخضع لهذا الحاكم، فيسمى بـ “مثقف السلطة” وآخر يرفض ذلك الطعم، فيكون مصيره النفي والاقصاء، أو السجن والمعتقل، وقد يصمت هذا المثقف ويلوذ بالاعتكاف داخل منزله، مهزوماً من الداخل.

 “سيل من اللعنات

تكتب مسار الزمن

الموجع،

احبولة موت تغتال

السنوات”

وهذه هي نتيجة طبيعية لمصير المبدع الذي يعارض ويدين المستبد.

فإلى أين يتجه الشاعر الذي وقع عليه الحيف والظلم؟ فالطرق مغلقة والابواب موصدة، والدروب ضائعة. وما بين هذا وذاك تعصف به الذكرى، فيحن الى السنوات الخوالي، سنوات الطفولة، سنوات العمر الاولى التي عاشها في كنف وطن يحتضنه كالأم. وهنا يشبّه الشاعر نفسه بالدرويش، فالدرويش في طقوسه الخاصة يتحول الى مجنون، أو هكذا يعتقد بعض الناس، وهذا أمر مغلوط، فهذه الطقوس لا يعيها إلا المتصوف نفسه، ووحده يدرك معانيها السامية، فيذوب في المعشوق، ذوبان الظامئ الى المعين. وبالتالي لا يشعر بألم ولا بغربة روح ولا بقسوة فراق، وهو يرى معشوقه حاضرا أمامه كالنور الساطع، يزيح الضنك، فتطمئن نفسه، وتُزاح أشجانه.

“آهٍ.. تلك المدينة الجنوبية

هجرتها مذ حلت فيها لعنة

,سيزيف

مذ أكلت عيون ابنائها

مذ نفضت رمال طرقاتها

بوجوه الأطفال

والتهمت قلوب الجنود”

إنّ  الإنسان إذا تعرض للعيش النكد، وسُلبت أرادته وفقد حريته، لابد أن يهجر تلك المدينة التي عاش في ربوعها، وتغذى من رحم واقعها، لاسيما إذا حلت بتلك المدينة اللعنة وأصبحت جحيما لا يطاق، حينئذ سيفكر في هجرها تلك هي غريزة متوطنة بالإنسان، بل وحتى بالحيوان الاعجم، اذا شعر، هذا المخلوق، بمخاطر على حياته، ومصاعب تقف إزاءه، ونُكدَ عيشه، وضاقت عليه الارض بما رحبت. بل إذا ظلَّ الانسان في هذه المدينة يتحمل ما يجري عليه من قسوة.

“هي نفسها تلك المدينة

التي هجرتها،

تسلب دموع النساء

وتفترس أمنيات الصبايا”

ويستمر التصدع الروحي والنفسي، ويظل العذاب نفسه، والاحساس ذاته. أنها سلسلة الضياع والشعور بالغربة وبالمصير المجهول مستمرة.

  خالد القطان عبّر عن مكنونات الانسان الزائفة، واستعرض حياة البشر، وغاص في اعماق النفس، وازاح الستار عن تلك النفس، وقرأ ما في دواخلها من ترسبات ومن نكوص، ومن خفايا امتازت بها.

*************************************************

بهدف تشكل رؤية كاملة عن شاعرنا وقصائده؛ نقدم هنا احدث قصيدة له، لم تنشر من قبل، الى جانب مراجعة نقدية لأحدث دواوينه.

شاعر وديوان..

بئر الأوهام

خالد القطان*

- 1 -

تطارده الخطوات

تتبعه كظله..

كلعنات ترافق جسده

الموسوم بخيبات السنين

ايامه تتساقط....

كلّما اشتعل رأسه بالأفكار

لا يد توسّد رأسه.....

ولا اخرى ترمم

ما تساقط من ايامه..........

- 2 –

هكذا يصحو من اغفاءة

يعدّها دهرا.....

وهي لحظات في حسابات

الزمن الحاضر.....

حقائبه الخاوية الاّ من

بضعة اوراق......

ينوء بها ظهره.....

تلك الأوراق التي خطّ عليها

تاريخ نكباته التي لا تنتهي.....

- 3 –

الأرصفة تتقاذفه

من رصيف الى آخر

بين الأرصفة يبحث

عن معنى وجوده......

لا شيء يسعفه الاّ حماقاته

التي تكدّست......

ترشقه كل لحظة

بوابل من سعاداته الزائفة.....

يرتّقها بأمنيات

تلهب رأسه.......

- 4 –

ينسج حبل الوصول

الى قمة أمنياته الكسلى

الاّ انه يتقهقر كطريدة

توشك على الانهيار.....

عروقه النافرة تشي بخساراته

التي تركها مهملة ليسقط في

بئر الأوهام..

التي تسحبه الى اعماقها

كدرويش يرقص

رقصته الأخيرة..

ويفنى جسده في ملكوت

الرب..

- 5 –

يمتطي جواده الأعزل

ليخترق الريح في هبوبها العاصف

كثمل اسكرته الخمرة

يترنّح..

لا يعي خطواته التي تقذفه

الى عالم من الضباب..

حتى يفقد الرؤية

ويتعثّر برؤاه ليسقط

في عتمة

لا قرار لها..       

_________________

*شاعر عراقي صدر له حديثاً: “نهارات وطرقات موحشة” شعر. عن اتحاد الادباء والكتاب في العراق، و “الكتابة في لحظتها العصيبة”مقالات. عن دار العرب والصحيفة العربية- دمشق. بغداد.

عرض مقالات: