أولاد الشوارع

مرة وأنت صغير رأيت رجالا  يركضون  في الشوارع  حذرين من الموت، فسألت والدك : وهل يخاف الرجال يا أبي؟   قال: أحقا رأيت رجالا ؟ وبعد عقد ونصف، كنت قد كبرت، وبلغت الحلم، وخطّ شاربك، وساورك الحبّ، فرأيتهم   ثانية  يركضون بالملابس، والوجوه نفسها يملأون الشوارع بالموت والوعيد، وكان أبوك يعيد عليك السؤال القديم أحقا رأيت رجالا ؟ وارتقيت  الكهولة، ومضى ثلاثون عاماً ونيف على ركضهم  أول مرة،  رأيت  أولاد الشوارع في المرة الثالثة يركضون،       ويدخلون  لعبة  الضحك على الذقون. في كل زاوية يعزفون لحن الجنائز، والضياع. فعرّج لقبر والدك، وطف حوله  قبل أن يأتيك السؤال،  وقل والدي.. صدقت فلم أجد  ما يُسمون رجالا.

 طز

صمّ كفه اليمين وحرك ذراعه ليكتب في الهواء «طز كبيرة»  يتسع ظلها لقامات عديدة.  منذ زمن وهو يتخيل أولئك الذين ينالون استحقاق الاصطفاف تحت هذه المظلة  أكثر من غيرهم.  رسم في ذهنه خريطة توزيعهم في المكان حسب شروط حددها على وفق خبرة تراكمت لديه عنهم. جاء في اليوم التالي إلى المكان ليرى مَن مِن الأسماء وصل إلى محله المفترض. كان هناك زحام شديد،  فتطلب الموقف منه وقتا ليتبين من بين المتدافعين  الوجه المحدد الأول في الخريطة، رآه يقف تماماً كما خطط له، فتساءل بمرح : أ تراه جاء مستعجلاً خوف أن يفقد مركزه؟                                                       

 قهقه بصوت عال، تنبه المكتظون إليه، فرفعوا أصواتهم بقهقهة مماثلة.

 كلب ماء

النارُ تأكل الصوت والصدى، لهب مجنون يلتهم ما يلوح في الأفق بشهوة جارفة. ألا ترين بأن الصمت أطبق بيننا وبينهم، أحترق صغارهم مثلما احترق صغارنا، لم نسمع منذ الحادث كركراتهم، وصياحهم العذب نحونا ( جليب الماي تريد حليب، لو جاي ). اختفى صوتهم الجميل عن سماء الأهوار، وتسمم الهواء برائحة الحقد، والوحشية، والدخان. ألا تشمين أصواتهم  المحترقة  تتصاعد في فتائل من جنون؟

 بهذه الزفرات الحارقة أخذ كلب ماءٍ حكيم، ومفجوع يواسي ثدية من جنسه فقدت صغارِها، وهما يسحبان بدنيهما المنهكين في بقايا مياه ضحلة جفت عن آخرها، مبتعدين  عن نار تُؤجج منذ أشهر في تخوم طبيعة منوعة. نار تغلي  في مرجل إبادة شعواء تأكل الحياة والإنسان والتاريخ.

 صهيل مُغيب

واقف منذ حولين على  باب إسطبل كبير، حصان أصيل. الخيل سواه  تدخل وتخرج،   ثم تدخل... عامان قمريان ولم يلتقط سمعه صهيل خيول. فجرّب أن يصهل للذكرى.. أطلق صوته الجميل.. تجمعت الخيول في الإسطبل لتسأل: ما هذا الصوت؟  قال واحد: هو الرعد، قال آخر: صوت الشيطان، وقالوا كثيرا ..  لكن، لا أحد منهم عرف، أو تذكر أن هذا صوتهم الذي نسوه إلى الأبد.

عرض مقالات: