في كتابه «الشعر والحياة» قال الشاعر والناقد الأميركي م. ل. روزنتال ( 1917 – 1996) أن «الشعراء ما هم إلاّ هوائيات البث اللفظي للناس». فما يفعله الشعراء «ينشأ من عالم التجربة، الذي يشارك الناس فيه بإحساس وحساسية الشعر والشعراء». كما وأكد أن الشعر «هو حالةٍ من الوعي».
وفي بلادنا، العراق، أكدت الحياة والتطورات، هذا القول النبوئي الواقعي، حين صار الشعر حياةً يومية معاشه، طيلة أيام واستمرارية إنتفاضة الجماهير، وفي مقدمتها الشباب، منذ انطلاقتها الأولى أعوام 2011 و2015، وحين اكتسب الأمر أبعاداً ومعاني أوسع وأعمق في انتفاضة الشعب في تشرين 2019. لقد لخص الشعراء والشعر، بحقليه العامّي والفصيح، لغة المنتفضين، بل لغة الشارع العراقي، شكلاً وبالمضمون.
تضمنت قصائد الشعراء ومن خلال المشاركة المباشرة والفاعلة، مطالب أوسع الجماهير، بل طورت المطاليب وصاغتها بصياغات ارتقت بلغة الناس البسطاء وأعطتها قوة الفعل والتأثير. وكان، وما يزال لهذا، الدور الكبير في صياغة الوعي الجماهيري، في زمن احتاج، ويحتاج فيه العراق إلى حملات متنوعة السبل والوسائل لإعادة الروح والوعي إلى المجتمع، بعد عشرات السنوات من الكبح والقمع والمحو، في ظل النظام الدكتاتوري الصدامي، وثم في ظلامات المحاصصات الطائفية والأثنية، التي أطلق نظامها الخانق، محتلو البلاد بعد عام 2003.
يمكنني القول أن هؤلاء الشعراء، وأخصُ الشباب منهم، رسموا لمرحلةٍ جديدة في مسيرة الشعر العراقي المعاصر. مرحلة تتسم أو اتسمت، بمضامين حيةً وواقعية. وأحدثت، حدّثت، إيقاعات شعرية، عكست طابع إيقاعات حركة الجماهير في مسيراتها وفي أهازيجها وتحركاتها اليومية، ضد النظام السياسي، والفاسدين المحاصصين، وتعرية قباحات التمثيل الزائف الذي طال زمانه، منذ 2003، وحتى اليوم، طبعا، بلا تكلف في الإحداث والإبداع.
ولم تكتف أشعار الشعراء المنتفضين، بهذا الحد، بل أنهم صاغوا في قصائدهم، وفي إهزوجاتهم العامية، آفاق وعناصر المستقبل المرتجى، ببناء الدولة الحرة المدنية الديمقراطية، ولخصوها بعبارة واحدة، بليغة المعاني وهي «نريد وطن» وأضيف «وطنٌ للجميع».
فهذا الشاعر يحيى السماوي يحدد سبيل بلوغ أهداف الانتفاضة إذ يقول:
لنكن:
حجراً على حجرٍ،
كيّ ينهضُ الصرح.
لوناً جنب لونٍ،
كيّ يشعُ قوسُ قزح.
نخلةً جنب نخلةٍ،
كيّ ينهضُ البستان.
جدولاً مع جدولٍ،
كيّ يتشكل النهرُ العظيم.
ليجرف مستنقع المحاصصات.
وبضرباتٍ شعريةٍ يطيح الشاعر عبد السادة البصري بمعول مفرداته بصرح المحاصصين:
ألا تباً لك ... تعساً لك،
أيها الكرسيّ.
ستنحرك الإرضةُ ،
في آخر المطاف.
وعبّر الشاب عبد الله السعدي، عن مستوىً وجديةٍ الغضب الذي يحمله المنتفضون، باستخدامه استعاراتٍ الفرات، ومائه والضمأ، فيورد في إحدى قصائده:
ماءُ الفراتِ ...،
غدا لهب. موجٌ / غضب.
الشعبُ ... في وجهِ الضمأ،
حراً وثب.
تبت يداك، أبا لهب.
فالنخلُ من عطشٍ تعب،
والطيرُ من كرك الرصافةِ هرب.
ستعود تمطرُ،
السحبُ السمراء،
في شطّ العرب.
ويعيد الشاعر الثائر، عباس ثائر من ذي قار، إحياء وقائع تدمي القلب في صور شبابٍ عانقوا الحياة باستشهادهم، أو سقوطهم جرحى في ميادين الحراك الجماهيري، ويكتب ابياتٍ لهم وبإيقاع مؤثرٍ:
سقطت ذراعُك،
وذراعي سقطت ايضاً.
سقطت قدمك،
وقدمي أيضاً. سقط رأسي، ورأسك أيضاً.
فتعال نحمل ما تبقى منّا.
وفي مكانٍ آخر من القصيدةِ، يشهر بالعلاقة الجدلية، بين ثقل الأجساد وقوة الأفكار، اذ يقول:
كيف يُحمل قتلى الناصريةِ ؟
يقولون أن أجسادنا ثقيلة،
نعم هي كذلك،
فالأفكار تثقلها.
وسيبقى الشهيد صفاء السرايّ، مشروعاً لقائد جماهيريّ، صادقٌ وينبض بنهج التواضع، وستبقى كلماته المصاغة نصوصاً شعريةً، في أعماق الارواح والأفكار. ولن تنسى كلمات قصيدته «دمٌ سمائي» القائلة:
دمٌ سمائي،
وأرضي والدماءُ فمُ. وفي المساجدِ قرآناً ومنتقمُ،
يشنقُ اللهَ فينا كلّ نافلةٍ، ويشربُ الشيخُ ...،
نُخبَ الموتِ،
ومنه دمُ.
ونستفيقُ على موتِ مواجعنا،
وتعثرُ الريحُ فينا،
والمدى رقمُ.
في كلّ دارٍ ..،
صدى موتٍ،
ونائحةٍ ...،
وفي التوابيتِ ...،
أوصالاً مقطعةً،
حتى توطّنَ فينا، البومُ والرخمُ.
وفي مكانٍ آخر من هذا النص الشعري، يقولُ صفاء السرايّ:
تفجّرَ الخوفُ فينا،
والشظى حممُ.
فذا أميرٌ، يذبحُ الله مبتهجاً،
وذا إمامٌ،
إلى الشيطانِ يحتكمُ.
بنوا المساجدَ في بذخٍ وترفٍ،
وفي النفوس، صروحاُ للنقاءِ هدموا.
سود الوجوهِ، تتباهى في قبائحها،
ويسفرُ الخزيّ، عنها حين تلتئمُ.
ويختتم السرايّ قصيدته بالصراخ المعبئ، في نموذجٍ جليّ لدور الشعر والشعراء في انتفاضة الجماهير، ودوام التأثير والفعل، فيقول:
ياعراااق ...،
كفانا موتاً يا وطني،
ولِمَ المقابرُ حبلى فيك تعتصمُ ؟
لِمَ الملايين صرعى، في الفلا ...،
وملئُ كفيّك فاضَ الجودُ والكرمُ ؟.
مذُ كنتُ طفلاً،
وأنا والحزنُ في شبقٍ،
كعاشقينِ،
بغيرِ الحبّ ما حلموا.
طبعاً إلى جانبِ هؤلاء الشعراء، ساهم شعراء لهم باعٌ في الشعر العراقي المعاصر، ومن أمثالهم، سركون بولص، وموفق محمد، وخزعل الماجدي، وقاسم وعلي عبد الأمير عجام، ورياض غريب وآخرين كثر، وأذكر أيضاً، دون انتقاصٍ من آخرين لا يسع المجال لذكرهم، وادي الحلفي، وعادل قاسم، وكاظم خنجر، ونور درويش، وسراج محمد.
جميعهم ساهموا بالحناجر، وبإيقاعات قصائدهم في إعلاء شأن الحراك الجماهيري وبدور المنتفضين المضحين بحياتهم. بل ساهموا في صياغات المطاليب والأهداف السامية لانتفاضة شعبنا المجيدة. وفي هذا السبيل فقد العديد منهم حياته، وبينهم كما أورت سابقاً، الشهيد صفاء السرايّ. استشهدوا والتغني بالشعر على السنتهم، وأياديهم تلتصق بالقلم سلاحاً، ممتشقاً، بسلمية الروح والعمل، من أجل خير الوطن.
هكذا بدت وتجسدت، العلاقة الجدلية بين الشعر وحركة الجماهير في انتفاضتهم الباسلة، فالأول عبر بصدق، وبأنبل المشاعر عن الثانية. في حين أن الانتفاضة دفعت بالشعر وبدوره إلى علاه، وسجلت مرحلة تطورٍ وإحداثٍ في الشعر وفي تقديم النموذج في علاقة الثقافة والمثقفين، عموماً بالواقع والوقائع، وبمطامح شعبهم. حيث سجل الشعراء والكتاب على خلاف مناهلهم الفكرية، دور الريادة والالتصاق بواقع حياة الناس بل ولكي يكونوا فعلاً « هوائيات البث اللفظي للناس» والدفع بمستوى وعيهم، كما قال روزنتال.
- مع الأسف ليس لديّ أي كتابٍ او مجموعة شعرية للشعراء، وأخص الشباب منهم، لجأت، لذلك، إلى الويب وهذا الذي أوردته هو ما حصلت عليه، وأملي أنني كنت سليما وأمينا للقصائد كما وردت. كما أعتبر هذه محاولة للتحريض على البحث والكتابة عن الموضوع، وهو كبير الأهمية في حياتنا الثقافية المعاصرة.