اخر الاخبار

( تنديد )

هذا النص وثيقة مسرحية للتأريخ عن ما حدث في ساحة التظاهرات والاعتصامات في العراق عموماً ومنها ساحة الحبوبي وجسر الزيتون في مدينة الناصرية/ جنوب العراق، وهي مدينة المؤلف. لقد حدثت مجازر لشباب العراق الذين لا يحملون سوى علم بلادهم، يقابلهم من الجانب الآخر قوات أمنية مدججة بالسلاح والحقد والكراهية ورصاص دولة القناصين، هذه الوثيقة تشير لشهر تشرين 2019 وما زالت الاحداث مستمرة في لحظة كتابة هذا النص عام 2020 !

(الإهداء)

أهدي هذا النص المسرحي لروح الشهيد الشاب عمر سعدون الطالب في كلية الإعلام وكل الشباب الذين استشهدوا معه في تلك الليلة الموجعة التي شهدتها مدينة الناصرية، والتي استشهد فيها أكثر من 50 شاباً بعمر الورود وجرح المئات...

المؤلف

الشخصيات

-سائق الستوتة

-شاب1

-شاب2

-هو

المكان: جسر الزيتون في مدينة الناصرية- جنوب العراق...

-نرى شخصية (هو) داخل التظاهرات بملابس بدت غريبة جداً، يصرخ ويلوح بعصاه مسانداً المتظاهرين، سرعان ما تقع بجانبه قنبلة غاز مسيّلة للدموع، نراه يختنق، تقع عصاه منه، يحاول التنفس بصعوبة، يقع أرضاً، يأتي سائق (الستوتة) وهو يخترق جموع المتظاهرين، يحمل (هو) بصعوبة ويضعه في داخل سيارته الصغيرة، ينطلق سائق الستوتة مسرعاً...)

سائق الستوتة: (لـ الغريب) لا تخف يا عم.. خُذ نفساً طويلاً...

هو: (يتنفس بصعوبة) أنا أختنق...

سائق الستوتة: ستعيش.

هو: قنبلةُ الغازِ وقعت بالقربِ مني.

سائق الستوتة: تنفّسناه طويلاً فصار هو الأوكسجين يا عم.

هو: (يحاول مسح دموعه) دموعي لا تتوقف.

سائق الستوتة: ستفرح.

هو: يا رب...

سائق الستوتة: ماذا تعني؟

هو: أعني يا رب...

سائق الستوتة: لم أفهم!

هو: يعني يا الله...

سائق الستوتة: الله؟..................... ماذا تقصد؟!

هو: الذي خلقك فسواك...

سائق الستوتة: آسف.. ذاكرتي معبأة بالدخانِ يا عم!

هو: ولكنه الله...

سائق الستوتة: سمعتُ عنه كثيراً فأحببته أكثر قبل أن أراه، أبي يقول هو أرحمُ عليك منّي، أمي تؤكدُ بأنه أقربُ إليكَ من عينيك.. ولكنني بحثتُ عنه قريباً من دمائِنا في ذاك الشارع (يشير للشوارع القريبة) وذاك وذاك وهذا الشارع، قريباً من الرصاصِ الذي ينامُ في صدورِهم والدخان، قريباً من أنفاسِهم ونظراتِهم الأخيرةِ التي تودعنا بكُلِّ الجراحات، ولم أجده.. فأين هو؟ (يصيح) أين أنت يا ربَّ الشباب؟ يا ربَّ الزيتون وطور سنين وهذا البلد الذي يعيش الجحيم! (بخيبه) وكما ترى.. كالعادة لا يجيبني!

هو: هو موجودٌ يصدُّ عن صدوركم الرصاص بصدرِه الكبير، ويتنفس بدلاً عنكم قنابل الغاز لتعيشوا...

سائق الستوتة: وهل يختنق مثلنا؟

هو: لا...

سائق الستوتة: أتدمع عيونه؟

هو: لا...

سائق الستوتة: ينزف دماً؟

هو: لا...

سائق الستوتة: لا فائدة اذاً.

هو: ولكنه ينزف مطراً من أجلكم!

سائق الستوتة: مطراً؟ هذا يعني بأنه يعلم بما يحدث لنا؟

هو: هو العارفُ بكُلِّ شيء.

سائق الستوتة: (يتلفت) وأين هو؟

هو: افتح قلبك وستراه.

سائق الستوتة: سلبوا قلبي يا عم.

هو: وروحك؟

سائق الستوتة: يا روح؟ نحن في كُلِّ لحظةٍ هنا ننزفُ أرواحاً يا عم، ننزف حكايات، ننزف امهات، ننزف وطناً... (يهدأ، يتفحصه) تبدو غريباً!

هو: (يتنفس بصعوبة) كنتُ غريباً يا بني وليس الآن.

سائق الستوتة: حتى في سوق البالات لا يبيعون هذه الملابس التي ترتديها!

هو: لا أملك سواها.

سائق الستوتة: أين تسكن؟

هو: لا بيت عندي.

سائق الستوتة: شكلُك...

هو: (يقاطعه) قلبي يُوجعني كلما وقفت على جسر الزيتون هنا!

سائق الستوتة: وقلبه أيضا...

هو: من؟

سائق الستوتة: جسر الزيتون!

هو: (يتنفس بصعوبة) أكادُ أختنق...

سائق الستوتة: لا تخف.. هذه الستوتة حملت المئات قبلك، منهم من رحل الى هناك طائراً بلا جناحين (يشير للسماء) ومنهم من لفَّ جراحه بالوطن وعادَ مشياً الى جسر الزيتون مرةً أخرى.

هو: أريد أن أفهم ما الذي يحدث؟

سائق الستوتة: وأين كنت أيها الغريب؟

هو: أنا لم أكن، أو أنا من زمنٍ آخر لا يشبه زمنكم...

سائق الستوتة: (ينطلق بالستوتة بشكل أسرع) لا يشبهُ زمننا؟ حرارتُك مرتفعة كما يبدو يا عم.

هو: أنا بكاملِ عقلي (يستدرك) الى أين ستأخذني؟

سائق الستوتة: (يضحك) لمتنزه الناصرية مثلاً أو مدينة الألعاب، لا تقلق، شبيك؟ سآخذك الى خيمةِ المُسعفين في ساحة الحبوبي، ليست ببعيدة، اصبر قليلاً يا عم.

هو: يا رب.. ما الذي يجري هنا؟

سائق الستوتة: تكرر يا رب كثيراً؟

هو: إنك لا تعرفه جيداً كما أعرفه.

سائق الستوتة: لم ألتقِ به من قبل!

هو: كيف؟ وهو الروح التي فيك؟

سائق الستوتة: فيَّ؟ أكانت تجوع عندما لم أجد في بيتنِا رغيفاً واحداً أوزّعه على أخوتي في ليالٍ لا شيء في البطون سوى الأحلامِ وسخامِ الوجوه؟ أكانت تتوجع لوجعي مثلاً وتتلقى سياط الحياة بدلاً عن قلبي؟ أكانت تمرض أو تحلم أو تصرخ مع صراخي؟ إذا كانت تلك الروح التي فيَّ هي الله كما تؤكد أنت؟ كيف وأنا لست على قيد الحياة!

هو: (يصرخ به) توقف وامسح هذه الأفكار التي تنام في رأسك...

سائق الستوتة: وما شأنك؟ لقد قررنا أن نُخصي أنفسنا نهائياً، ورفعنا شعاراً لا حلّ سوى الإخصاء!

هو: ولكنه سبحانه خلقكم أحياء من أجل أن تنجبوا أحياء.

سائق الستوتة: كنتُ أعتقدُ ذلك مثلك أيضا... (يتوقف سائق الستوتة فجأة، يصيح) لا بنزين في الستوتة.. خرب حظي...

هو: لماذا توقفت؟

سائق الستوتة: (ينزل من عربة الستوتة) وكيف تسير دون بانزين؟ (يصيح) يا شباب أحتاج الى بنزين، عندي حالة طارئة الله يخليكم...

هو: البنزين؟! (يتنفس بصعوبة، لا يستطيع السيطرة على دموعه) من أنت يا بني؟

سائق الستوتة: قلتُ لكَ سائق الستوتة التي تنقل القتلى والجرحى...

هو: وما اسمك؟

سائق الستوتة: نسيت اسمي في زحام الموت!

هو: عمرك؟

سائق الستوتة: ليس مهماً.

هو: متزوج؟

سائق الستوتة: اعتقد ذلك.

هو: ماذا تعني؟

سائق الستوتة: أنا وزوجتي رفعنا في بيتِنا شعار العقم والى الأبد.

هو: ولِــمَ هذا الشعار؟

سائق الستوتة: حتى لا نُنجب أطفالاً يشبهوننا، ويعيشون حياة تشبهنا، ويحلمون بنفسِ الأحلامِ السخيفةِ التي تشبه أحلامنا القديمة السخيفة، حتى لا يشتموننا كما نشتم الآن أباءنا السخفاء الذين نشبههم...

هو: وكيف ستستمر الحياة دون انجاب؟

سائق الستوتة: مُشكلتها!

هو: من؟

سائق الستوتة: الحياة.

هو: حرام...

سائق الستوتة: (يصرخ به) اسكت الله يخليك، الحرام أن نولد!

هو: لا تصرخ.. الله يسمع دون صراخ.

سائق الستوتة: وأين هو؟

هو: (يتنفس بصعوبة) أنت في حضرة الله دائما.

سائق الستوتة: (يتلفت) أين أين أين؟ (يتحسس جبينه بيده) ما زالت حرارتك مرتفعة كما يبدو يا عم.

هو: لا أقوى على التنفس...

سائق الستوتة: ما الذي جعلك تخرج للتظاهرات وأنت بهذا العمر؟

هو: (يشير للسماء) أرادني أن أرى.

سائق الستوتة: أرادك؟ وهل رأيت؟

هو: (يتنفس بصعوبة، مؤكداً) نعم رأيت...

سائق الستوتة: وماذا؟

هو: فرعوناً يسلم الراية لفرعونٍ آخر!

سائق الستوتة: فرعون؟ أيُّ فرعون يا عم، ما بك؟ إنها مجردُ قنبلةِ غازٍ مسيلةٍ للدموع، ألم ترَ الشباب يصدّونها برؤوسِهم وصدورِهم...

هو: رأيت، والله رأيت...

هو: أنا جديدٌ على حياتِكم.

سائق الستوتة: هل كنت مغترباً؟

هو: لا.

سائق الستوتة: نائم وصحوت الآن؟

هو: لا.

سائق الستوتة: أسيرُ حرب؟

هو: لا.

سائق الستوتة: كنتَ في غيبوبة؟

هو: لا.

سائق الستوتة: حيرتني...

هو: لا عليك، سأقول لك... (صمت، بعدها بهدوء....) أنا الموت!

سائق الستوتة: الموت؟! ماذا تعني؟

هو: أنا من يحتضن الارواح ويأخذها بعيداً عن حضن أمهاتهم!

سائق الستوتة: (يضحك) قل غيرها يا عم.

هو: حاول أن تصدِّق.

سائق: الوقت غير صالح للمزاح.

هو: أنا هو.. حاول أن تستوعب.

سائق الستوتة: أنت الموت الذي في كلِّ مكان؟!

هو: والمسؤول عنه.

سائق الستوتة: (يصرخ به) وماذا تريد؟ أما يكفي يا موت اذا كنت أنت الموت فعلاً؟

هو: أنا أمارس عملي كما تعرف، وقد أرسلني الله هذه المرة أن أحذركم من اخصاء أنفسكم، أحذركم من الموت!

سائق الستوتة: (يضحك بقوة) الموت يحذرنا من الموت؟

هو: نعم أحذركم يا سائق الستوتة...

سائق الستوتة: كنتُ في كُلِّ لحظةٍ أشعر أن الموت يطاردني.

هو: أعرف.

سائق الستوتة: لم أعش بعد لكي أموت.

هو: أعرف.

سائق الستوتة: ربما أكون قد مت ولا أدري!

هو: ربما...

سائق الستوتة: اذهب من هنا ومارس عملك يا موت.

هو: لن أمارس عملي، لقد تعبت...

سائق الستوتة: تعبت من ماذا؟

هو: من عيون الأمهات التي تعاتبني دائماً!

سائق الستوتة: قالوا أن لا رحمة في قلبك.

هو: كُلُّ الرحمةِ في قلبي.

سائق الستوتة: (يضحك بقوة) ماذا يجري على جسر الزيتون يا ربي؟ قنابل الغاز المسيّلة للدموع حوّلت هذا الرجل الى ملك الموت (يصيح) يا شباب، يا شباب الزيتون.. عندنا ملك الموت ضيفاً في التظاهرات...

هو: لا تصرخ يا بني.

سائق الستوتة: دعهم يسمعون هذا التحشيش...

هو: تحشيش؟

سائق الستوتة: وماذا تسمي أن أتحدث مع الموت؟

هو: فرصة للحياة...

سائق الستوتة: مازال القتل، القهر، الضيم مستمراً يا موت.

هو: أنا في مأزقٌ...

سائق الستوتة: مأزق؟

هو: أرسلني الله سبحانه لكم.

سائق الستوتة: لنا؟

هو: من أجل أن تعيشوا لا أن تموتوا، وهذه مهمة خارج عن عملي الحقيقي، أنا الموت ولا أومن بشيءٍ اسمه الحياة.

سائق الستوتة: خذ أرواحنا واذهب...

هو: (يصيح بهم) قلتُ لك جئتُ لكي أبلغكم أن تتوقفوا عن عمليات إخصاء أنفسكم.

سائق الستوتة: جئتَ في وقتٍ متأخر.

(نسمع أزيز رصاص بكثافة، مع سقوط الكثير من القنابل المسيلة للدموع قريباً من /هو/ وسائق الستوتة...)

سائق الستوتة: (يصرخ بـ هو) دعنا نختبئ يا عم، الرصاص يشتد...

هو: وأين نختبئ؟

سائق الستوتة: الموت يختبئ؟ هذا ليس وقتاً صالحاً للضحك لضحكت بصوتٍ عال... (يصيح به) يا موت سنموت هنا، تعال معي، هيا بسرعة...

(يركضان بسرعة، يجدان باباً مفتوحاً فيدخلان الى بيت يبدو مهجوراً من ساكنيه، أو ربما هربوا منه بسبب اشتداد الرصاص على بيتهم، نجد شاب1 وشاب2 يختبئان في غرفة النوم.. هي لزوجين حديثي الزواج)

- شاب1 وشاب2 ينهضان مباشرة...

شاب1: (يصرخ بهما) من أنتما؟

شاب2: وماذا تريدان؟

سائق الستوتة: لا شيء.. جئنا نختبئ من الموت خارج هذه الغرفة.

شاب1: ما زال الموت هناك.

سائق الستوتة: وأنتما ماذا تفعلان هنا؟

شاب2: لا شيء.. جئنا نختبئ من الموت لبعض الوقت!

هو: نختبئ مني؟!

شاب1: (يشير للغرفة) انظروا.. غرفة زوجين ما زالا في شهر عسلهما.

سائق الستوتة: هو بيتٌ هجرهُ أصحابه كما يبدو.

شاب2: (لسائق الستوتة) من الرصاص!

هو: من الخوف...

سائق الستوتة: (ينظر لـ هو) من الموت...

شاب1: (يصغي باهتمام) الرصاصُ يشتد...

سائق الستوتة: دخلنا البيت بصعوبة.

هو: (يتنفس بصعوبة) ما الذي حدث؟

شاب1: (باستغراب يشبر لـ هو) من هذا؟

هو: أنا...

سائق الستوتة: اختنق بالدخان فحملته في الستوتة...

شاب2: (لـ هو) كُلُّ هذه الكارثة وتسأل ما الذي حدث يا عم؟

هو: لا أستوعب هذا الحريق هنا!

شاب1: ماذا تعني؟

سائق الستوتة: أصيب العم أيضاً بقنبلةٍ مسيلةٍ للدموع...

شاب2: الدموع لا تنتهي...

شاب1: ولا شيء سوى الموت يتجول من ساحة الحبوبي الى جسر الزيتون!

هو: الموت؟.............. أنا هو، أنا الموت.

شاب2: أنت هو؟ (لـ هو) أعرف أن هذا تأثير الغاز عليك.

هو: لالا.. أنا الموت فعلاً.

شاب1: الموت؟

شاب2: (يصغي) الرصاصُ يشتد أكثر...

هو: الموت يشتد.

سائق الستوتة: (للشابين) لقد شاهدَ فرعوناً جديداً كما يقول.

شاب1: أرجوكما.. يكفينا صوت الرصاص والغازات وقنابل الدخان، الوقت لا يبدو مناسباً للنُكات.

سائق الستوتة: قلت لك هو فعلاً الموت كما يؤكد، انظر لشكلهِ وملابسهِ...

شاب1: حتى يكتمل فلم الرعب عندنا.

شاب2: وماذا تريد يا موت إذا سلمنا بأنك الموت فعلاً؟

هو: أن تعيشوا...!

شاب1: لا معنى هنا لكلمة تعيشوا.

شاب2: الإخصاء يا موت تمردٌ على سلطةِ الحياة.

هو: وسنةُ الله؟

سائق الستوتة: الموت فرصة للسعادة يا موت! هذه هي السُّنة.

هو: ستنقرضون...

شاب2: (يضحك) نحن لم نعش أصلاً حتى ننقرض.

هو: وهذي الحياة؟

سائق الستوتة: ومن قال بأنها حياة؟

شاب2: أما تسمع أزيز الرصاصِ الموجَّه لأرواحِنا منذ سنواتٍ طويلة؟ رصاصة تسلم الراية لرصاصة أخرى وأخرى...

هو: أسمعهُ...

شاب1: كنتُ في بطني أمي يا موت وأنا أسمعُ هذي الأصوات، وأحترقُ بنارِها، وأخافُ من دويِّها! وأعدُّ الشهور في بطنِها خوفاً من الخروج

هو: أسمعهُ...

شاب2: لقد زرعني أبي في رحم أمي شجرة صفصاف لا تثمر سوى الحزن!

هو: قلتُ أسمعهُ.

سائق الستوتة: إنك لا تسمع وربما لا ترى، لأنك تريدنا أن ننجبَ أطفالاً سيكونون نسخة طبق الأصل من تأريخ أرواحنا يا موت؟

هو: كلماتك لا تلتقي مع هذه العربة التي تقودها!

سائق الستوتة: يكفي أنها هي الوحيدة التي أقودها، وهو قدرُ الشبابِ هنا أن يُوضعوا في مكانٍ لا شيء فيه سوى الخراب بعد سنواتٍ طويلةٍ من الدرس والطباشير.

شاب1: وقدري أيضا يا موت.

شاب2: قدرنا كلنا...

هو: ولكن الإخصاء...

شاب1: (يقاطعه) لا يمكن للموتى أن ينجبوا أحياء، ولا يمكن للآباء التعساء أن يُنجبوا أولاداً سعداء. 

هو: ما الذي يجري؟ أين الخطأ في كُلِّ هذا؟

شاب2: (للموت) قل من هو المسؤول عن كُلِّ هذا؟!

هو: (يصيح) ليس من مهمتي أن أجيب على الأسئلة.

سائق الستوتة: اذن اتركنا واذهب الى عملك بعد أن يتوقف الرصاص.

هو: الله كلمني وأمرني أن أوقف قراركم، ولن أعود حتى تتوقفوا عن اخصاء أنفسكم.

شاب1: جئتَ في وقتٍ متأخر.

هو: ماذا تقصد؟

شاب1: لا رجعة في قرارِنا بالموت.

هو: (يصيح) يا رب تدخّل بنفسك، برحمتك.. فلا قدرة لي على إيقاف هذه الفوضى.

شاب2: اتخذَ القرار بالإجماع.

سائق الستوتة: وأُفهمَ علناً.

هو: لا حياة تستمر على الأرضِ من دون أن تُنجبوا جيلاً جديداً.

شاب1: وهل تُسمي هذه البالوعة أرضاً؟

هو: الله خلقها لتكون مستقراً لكم الى حين.

سائق الستوتة: (يضحك) مستقراً؟ (يهز جسمه ساخراً) نحن نهتزززززز... وكلما وقفنا للحظةٍ واحدةٍ وقعنا، وكلما حاولنا أن ننهضَ سقطنا، وكلما ارتفعت رؤوسنا قليلا ركعنا، وكلما رفعنا أيدينا لربِّ هذي الأرض لم يسمع منا...

هو: الله الحكيم يسمع ويرى.

سائق الستوتة: يتفرج!

هو: لا.

شاب1: يتمتع! 

هو: لا.

سائق الستوتة: يتألم.

هو: لا.

شاب2: يصمت!

هو: لا...

سائق الستوتة: ماذا ينتظر إذاً؟

هو: ينتظركم...

شاب2: كيف وقد خُلقت توابيتنا مع لحظة ولادتنا يا موت؟

شاب1: نحن من ننتظره!

سائق الستوتة: من يُفترض أن ينتظرَ الآخر؟

هو: هو ينتظرُكم أن تكسروا تلك التوابيت.

شاب2: لا نملك فأساً.

شاب1: أية مفارقةٍ عجيبةٍ أن يطلبَ الموت منا أن نعيش!!

سائق الستوتة: ملِلنا من هذي الخطابات يا موت، دعنا نُخصي أنفسنا، وتلك ثورة.. أن لا يأتي أي جيلٍ بعدنا.

هو: حرام.. أن تُخصوا أنفسكم ويتوقف نسلكم. وهذا يعني أنه احتجاجٌ ضد الله.

شاب2: (لـ هو) نحن نحتجّ على الحياة التي وضعنا الله فيها دون موافقة منا!

هو: (يصفع شاب1) اسكت.. إياك وتجاوز الحدود.

شاب2: (يضحك) الموت يصفع أيضا!

سائق الستوتة: (لـ هو) إنك لا تفهم لأنك لم تعش معنا.

شاب1: الحياة التي ابتدأت بكارثة اسمها الولادة ماذا تنتظر مثلاً أن تكون النهاية؟

شاب2: الحياةُ التي ماتت كُلّ احلامنا فيها.

هو: ولكنكم ستذهبون بعدها لدار النعيم؟

شاب2: (يضحك) هي لهم أيضا يا موت...

شاب1: وحقك هي لهم.

سائق الستوتة: وسيقتلوننا هناك...

هو: قلوبكم تمتلئ شكاً بعدالتهِ سبحانه...

سائق الستوتة: ألم ترى العدالة شريط الدماء الطويل؟ تعددت الأسباب وقتلنا واحدُ، الكُلُّ يشهد بأننا لم نسكت، صراخنا بوجه الخوف، رفضنا، تمردنا على سلطة الرصاص، ولكن الدم ظل يلاحقنا كظّلِنا، تعددت الأسباب وموتنا واحد، واحد، وكأن هذا الموت لا يعرف غيرنا، وكأن خارطة هذا الكون اختصرت بوطنٍ واحدٍ هو نحن، واختصر بشباب هذا الكون بشبابنا، وبدماء العالم بدمائنا، وبقبور الدنيا بقبور احبائنا، (يصرخ وهو يرفع رأسه للسماء) ماذا يحدث هناك يا رب؟ ماذا نفعل حتى تتحقق تلك العدالة التي تتحدث عنها يا الله؟

هو: هو أعدلُ العادلين، وفي آخرِ النفقِ سترون نور الشمسِ، تلك هي حكمةُ الله دائماً.

شاب2: في آخر النفق سنرى ظلاماً.

سائق الستوتة: (لـ الغريب) أنت ترفعُ شعاراتٍ لم تعد صالحة للحياة هنا.

شاب1: وقديمة جداً...

هو: كلامه.. اذا قال للشيء كن فيكون.

سائق الستوتة: فليقل...

شاب2: ماذا ينتظر؟

هو: هو يعرفُ متى يفعل.

شاب1: نحتاجُ الى معجزة.

هو: أنتم معجزةُ الله، فلا تنتظروا ربيعاً من دون أن تزرعوا الأرض بالحبِّ.

سائق الستوتة: هذا يا حب؟

شاب1: الموت يتحدث عن الحب.. أجمل نكتة سمعتها في حياتي.

شاب2: (للغريب) اذهب الى عملك فالكثير من أرواح الشباب تنتظرك الآن!

هو: قلتُ لكم جئتُ لكي أمنعكم من الإخصاء.

سائق الستوتة: لا سلطة لك علينا.

هو: لابدَّ من جيلٍ قادم، لابدَّ من حياةٍ أخرى...

سائق الستوتة: تعِبنا.. تعِبنا من عمرٍ يابسٍ ليس فيه سوى سنواتٍ تأكل الأخرى، وكلماتٍ تافهةٍ تنزفُ الأخرى، وأحلامٍ جبانةٍ تَقتلُ الأخرى وليالٍ موحشةٍ تدفنُ الأخرى، تعبنا من كُلِّ أخرى وأخرى...

هو: (يصرخ بهم) ستنقرضون...

(الثلاثة يضحكون بقوة، ضحك متواصل حتى يتعبوا من ضحكهم.. يتوقفون)

هو: لِــمَ تضحكون؟

شاب1: أنت تقول ستنقرضون.

هو: الإخصاء.. يعني أن لا جيل بعدكم.

شاب2: نحن انقرضنا أصلاً.

هو: وما ينفع الإخصاء؟

شاب2: نريدُ أن نُدفنَ في قبورِنا دون هذا الشيء، ونُعلن رفضنا الحياة لجيلٍ قادمٍ حتى وأن كنّا في قبورِنا!

هو: يا ربي.. دعني أرحل عن جسر الزيتون لمكان آخر؟

سائق الستوتة: نحن ننتظر أن يتوقفَ الرصاص لنجد من يُخصينا.

هو: رأيت آلاف الشباب تقف في طوابير عند ساحة الحبوبي.

شاب2: إنها طوابير الإخصاء.

هو: (يصرخ) تمرد تمرد تمرد...

سائق الستوتة: احتجاج...

شاب1: في داخل كل واحد منا ألف حكاية وحكاية، وألف وجع ووجع.

شاب2: سمعتهُا تتحدث للبناتِ هنا عن قِصَّةِ حبِّنا التي ليس كمثلِها قِصَّة، سمعتُها تحكي لهم عن حبيبِها كأنها تتحدث عن سلطانٍ من ذلك الزمان والكان يا ما كان، ورُغم خجلي ولكنني كنتُ سعيداً لأننا كنا نحلمُ معاً ان نكونَ يوماً ما تحت سقفٍ واحدٍ وحبٍّ واحد وأحلامٍ واحدة، يجمعنا البيت والأولاد والضحكات وتُصبح هذه البنت ملكة الجمال في بيتي، ولكن.. تلك الرصاصة لن تستحي مني عندما يطلقها القناص! ولن تخجل من عشرين شمعة من عمري، ولا تعرف أن هناك حبيبة ستموت بنفس الرصاصة قبل موتي (يصيح) يا الله.. سينقرض الحب في هذي البلاد، ولن تجد أحداً يتحدث عن قصةِ حبهِ بعد الآن...!

سائق الستوتة: هذه الستوتة شاهدة عيان على قلوبٍ كانت عاشقة.. ولكن كانت غرف الطب العدلي بانتظارها.

شاب1: بعضهم كان يُحبُّ من طرفٍ واحد.. وكل الشباب هنا على جسر الزيتون يعرفون قصصهم.

شاب2: كان البردُ والليلُ الطويلُ فرصة لتلك الحكايات.

هو: لم أسمع من قبل بتلك القصص الجميلات...

سائق الستوتة: لم يبقَ منهم سوى قصصهم.

شاب1: الذكريات يا موت.. ليس فيها سوى أزيز الرصاص!

شاب2: الرصاص.. دائما بانتظار صدورنا...

سائق الستوتة: (يصرخ) الرصاص...

 (يشتد أزيز الرصاص، نرى دخاناً يدخل الى الغرفة التي يحتمون بها، يصرخون ببعضهم الآخر، يخرج الجميع من الغرفة باتجاه الشارع بعد أن يختنقوا بالغاز المسيل للدموع وهم يسعلون بقوة، يحاولون الوقوف وسط الشارع، يظل أزيز الرصاص متواصلاً، يختفون وسط الدخان، ولا نسمع سوى صوت /هو/ ينادي عليهم، يتوقف كل شيء، الرصاص، الدخان يتلاشى، نرى (هو) وسط المكان وهو يشاهد الدماء بالقرب من الشباب الذين سقطوا أرضاً على جسر الزيتون وعلى امتداد الشارع المؤدي للجسر، يقترب منهم الواحد بعد الأخر...)

هو: اذا كنت أنا هناك فمن سلب أرواحكم؟! من؟ من تدخل في عملي وأخذ دوي؟ أنا بريء من أرواحكم، صدقوني لا علاقة لي بما حدث... انتظروا قليلاً، لا تموتوا، مهمتي أن تعيشوا أيها الأولاد الصغار... (يشير لجثث الشباب، يتفحصهم، يجدهم جميعا تم اخصاءهم...) اخصاء.. كلهم أخصوا أنفسهم! توقفتُ عن مهمة الموت وجئت لكي أتفاوض معكم وايقاف طوابير الإخصاء فوجدتني جئتُ في وقتٍ ضائعٍ لا حياة فيه... (يرفع رأسه) لم أعد أدرك ما يحدث يا رب، لم أعد أفهم سر هذا الموت الذي لا يقطف سوى الورود. ما الحياة هنا؟ أ هي الموت ولا أدري؟ فلماذا يولدون اذن اذا كنت أنا بنفسي أقف لهم في أول الشارع.. أول الحياة لأمنعهم من الاستمرار؟ لماذا يأتون ويرحلون في اللحظة نفسها؟ يا رب.. إنهم يُخصون أنفسهم الآن حتى تتوقف تلك الولادات وأتحوّل الى عاطل عن الموت! يا رب، أفضل أن أكون عاطلاً عن الموت، وأعيش بثياب جديدة مع تلك الورود، أشاركهم التمرد والرفض وأحتج على كل ما يحدث لهم في هذه الحياة... 

(يخرج الموت سكيناً من تحت ملابسه، يرفعه، يدير جسمه الى الخلف ويقوم بإخصاء نفسه).