اخر الاخبار

أسطرة الواقع والمنحى الفانتازي

بعد أن أصدر القاص والروائي خضير فليح الزيدي عدداً من الأعمال الروائية التي تنوّعت في اشتغالاتها ومضامينها الإنسانية على مستوى الشكل والمحتوى، نجده يقدّم مجموعته القصصيّة الموسومة (منديل الماركسي) الصادرة عن دار تأويل – بغداد 2022، لتوكيده على فن القصة القصيرة بوصفه فناً يتوافر على خصائص وسمات تجعله في مصاف الأداء الروائي، على الرغم من أنّ القصّة القصيرة هي الفن الأصعب والفضاء المكتنز والمتميز بخصائص ليس من السهل حيازتها، والتمكّن منها، الاختزال وطريقة السرد وبراعة الالتقاط، فالقصة القصيرة هي قصيدة السرد لما تنطوي عليه من سمات جمالية ومعرفية، وقدرة على تقديم الأفكار والثيمات ذات العمق وتقديم شخصيّات تكابد الصراع بينها وبين الواقع الذي تعيش فيه وتتصادم معه فشخصيّات القصّة القصيرة تتصف بالفردانية والصراع الموجع وميلها إلى نمطين من السلوك فأما المواجهة وأما الانكفاء وفي كلا الحالتين هناك توكيد على فضح الواقع وإدانته.

يقدّم لنا الزيدي المجموعة وتتضمن إحدى عشرة قصة قصيرة اتسّمت بالاختزال والتكثيف وأسطرة المعنى، وتنوع المضامين والموضوعات لكنها تمركزت حول المنحى الفانتازي وظل هذا الهاجس والاشتغال طاغياً على القصص وفق ثنائية النسق الغرائبي والعجائبي، ويمكننا التنويه بالتفريق بين النسقين فكلاهما يشتغل على اللامألوف وخرق قوانين الواقع والخروج عنه، لكن هذا الخرق والمغايرة تبدو في النسق الغرائبي ضمن اللامعقول الذي يحتمل وقوعه على مستوى الواقع وفي النسق العجائبي نجد اللامعقول يجسد رؤية أو حدثاً يستحيل وقوعه لأنه يناقض القوانين السيوسيولوجية والفيزيقية تماماً.

وكانت آخر القصص (منديل الماركسي) عنواناً للمجموعة وهي قصة تشتغل على النسق الغرائبي المستند على استحضار وإعادة انتاج سيرة حياة الروائي الراحل حميد الربيعي وبهذا فهي مزجت الغرائبي بـ(السيري) إلى جانب توظيف الميتاسرد من خلال ذكر الأسماء والأحداث الحقيقية وصياغتها عبر المتخيل السردي إلى جانب أن الكاتب أهدى مجموعته إلى الروائي الراحل نفسه “إلى روح صديقي حميد الربيعي... كنت مثل نسمة هادئة لم تدم طويلاً”.

وفي قصصه ركز على أحداث لعبة سردية مؤطرة بالمنحى والاشتغال الفانتازي (الغرائبي حيناً والعجائبي حيناً آخر) ولذا يمكن تفكيك معنى اللعبة كاشارة استباقية وردت في العتبة الأولى التي استعارها كمقولة لأحد الكتاب: “أكتب كما كنت لاعباً لكرة القدم يمرر الكلمات من فوق شباك ارضية القصة، ينتهي مشوار الشوط بالفوز الجميل... ادواردو غاليانو”.

ففي قصة (والحكايات إذ تبقى ... قرية الفرافير) يقدم لنا عالماً مؤسطراً، يكشف عن غرائبية قرية تسمى (الفرافير) ويسرد لنا الواقع الذي تعيشه ويغمر فيه افرادها وتقع “على نهر ملتو يدعى (فرات) قبل أن يلتقي مع قرينه دجلة بقليل”.

وعلى الرغم من بعض الخصائص التي تنتمي إلى الواقع لكن الحدث والشخصيات تبقى ضمن النسق الافتراضي المغاير لمعايير الواقع الحقيقي والتاريخي وبدءاً تشير إلى تناص على مستوى التسمية بينها وبين عمل مسرحي يحمل الاسم نفسه للكاتب يوسف ادريس، و”(الفرافير مخابيل – هكذا يقال عنهم – وتلك عبارة منقولة من القبائل المجاورة لهم) غالباً ما تأخذ اهلها الغيرة والحمية ويندفعون للقتال لأتفه الأسباب حتى لو كان السبب مقتل جرذ تحت عجلات سيارة حمل تنقل حصاد قمحهم، أو كلب فرافيري اجرب قتل بنيران صديقة، أو حمار احدهم زهقت روحه من الحر في شهر تموز فبال دماً ونفق كفطيسة فهم (يفزعون) لمساعدة المظلوم والضعيف من القبائل الأخرى ويأخذون الثأر”.

وامتزاج الغرائبي والعجائبي بروح التهكم والسخرية مزيّة نجدها ترتبط ببنية السرد الذي ينتظم قصص المجموعة ويعكس بعضها روح الكوميديا السوداء وتقديم تراجيديا الواقع من زاوية حادة في دلالتها واشتغالها، ويتواتر المنحى الغرائبي بحدوث ذروة الحدث بتعرض قرية الفرافير إلى (الإبادة العظمى) نتيجة خوضهم لإحدى الحروب. و”لم يبق أحد في القرية من الذكور مطلقًا ولم يبق سوى النساء لتديم وجود اسم الفرافير”. وتبقى النساء ينتظرن عودة أي (فرفور) ويجدن الأمل في نبوءة أحد العرافين ولكن الخيبة تبقى مسيطرة لأن (الفرفور) الأخير العائد كان مصاباً بعطب عضوه الذكري نتيجة القتال وهو الناجي الأخير ويدعى (عواد الفرافيري).

وفي نهاية القصة ترد هذه العبارة الدالة أو الشفرة التي تكشف كثيراً من المعنى: (ذلك هو مآل القصص، ومنها قصص هذا الكتاب...) أي أن القصص الأخرى ترتكز على ثيمات ومضامين مماثلة وهي تشتغل على ثنائيات الموت والحياة والحلم والكابوس والوجود واللاوجود والحقيقة والغياب والعقم والانجاب والفانتازيا والواقع والتراجيديا والكوميديا، وغيرها من الدلالات، والكاتب يركز على إحدى المهيمنات على اجواء القصص لاسيما أنه يتصدى إلى تناول وتفكيك الحرب بشكلها العام وإلى الاحتدام الداخلي والأحداث التي اتسمت بالصراع المكوناتي في العراق ابان اعوام العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين وفي القصص إدانة للحروب، وهذه الاحتدامات التي خلفها الاحتلال البغيض إلى جانب تناول ظواهر وافرازات الواقع من هجرة وتهجير وخطف وقتل مجاني.

أمّا في قصة (القرد الذي صار مثالياً) فنجد اللامألوف يمتزج بالغرائبي والعجائبي لينتج نصاً مكتظاً بالمعاني والإشارات والكوميديا السوداء ويضعنا القاص في مستهلها عند احالة زمنية تمثل إحدى دلالات النص “اللهمّ لا يكذبني أحد منكم سادتي... اذكر ان هذه الحادثة الغريبة حدثت في عام 2007 وفي شهر ايلول منه وفي بغداد تحديداً إذ تناقلتها صحف محلية وقنوات فضائية عدة بسرعة بالغة، كمادة منعشة للأمل، وفي ذلك قائمة الأخبار الساخنة، ففي ذلك اليوم غيّبت الأقدار المتسارعة قسراً السيد (هاتف جابر ملافي) عن عمله، حتى غدا رقماً من بين أعداد المغدورين”. وملافي هو أحد موظفي حديقة الحيوانات ويعمل في أمانة العاصمة وبعد مضي زمن طويل لم يظهر إلى العيان رغم محاولة المدير والموظفين للاتصال به والبحث عنه مما يجعل المدير وبعض الموظفين من التوصل إلى حل باستثمار أحد القردة وتحويله إلى موظف في قسم خدمة القرود في حديقة الحيوانات حيث أن الوضع الإداري لا يسمح بالتعيينات الجديدة وهذه المفارقة كشفت عن تراجيديا الاختفاء والفقدان وكأن العالم أصبح عالم (قرود) ممسوخة.

أمّا قصة (حادث عرضي، قصة مصورة) فإنها تتناول واقع الحرب وما يحدث فيها من أحداث فانتازية تفوق الخيال ويوثق القاص الجذر الذي استمد منه هذه القصة الغرائبية في مطلع سنوات حرب الثماني سنوات: “ثلاثين عاماً خلت أي منذ معركة المحمرة وإلى يومي هذا وأنا جالس على عتبة باب الورق الأبيض واضعاً كفي على خدي وأفكر بطريقة خالية من الأنفعال، أبحث عن طريقة تكون مقنعة على الأقل لكتابة هذا (الحادث) العرضي”.

ويتناول النص حادثة غريبة هي اصابة جندي (المغاوير) حسن بلبل بصاروخ استقر في صدره وبين اضلاعه ولم ينفجر مما يحدث حالة فريدة ومثيرة تستدعي الأطباء وكتيبة الهندسة العسكرية لمعالجة الأمر تحت صراخ وبكاء الأخت (رجوة) وغاب الجندي بكل مغامراته وعشقه للسينما والبلابل، وبعد أحداث ومفارقات ينتزع الصاروخ بعد عملية في حديقة المستشفى لكي لا ينفجر الصاروخ في مكان آخر لكن الرجل الذي صار حياً لم يعُد حسن بلبل إذ فقد ذاته وطباعه وأصبح رجلاً يخاف كل شيء ويسير جنب الجدار، والقصة تنطوي على ادانة الحرب وبشاعتها ودورها في تشويه الحياة والانسان وأحلام البشر، وبهذا النسق الغرائبي ومزجه بالعجائبي تسير قصة (السيدة طوكيو البغدادية) وهي تروي ما حدث لسيدة عراقية – يابانية، ويستهل النص بسرد ذاتي فحوى القصة: “لم أتوقع يوماً حتى ولو كان بمصادفة خالصة أن التقي بامرأة عراقية من أصول يابانية، مفارقة كبرى بين العقلين والسحنتين والسلوكين”. ويستغرق النص في تفاصيل حياة هذه السيدة الغرائبية ومزجها بين تقاليد بغدادية ويابانية حتى يتعرض ابنها للخطف فتستخدم كل التقنيات الالكترونية في اصطياد الخاطف وتحديد مكانه وبمساعدة السفارة اليابانية ويتم تحرير الابن، والقصة هي الأخرى تشتبك مع الوقائع الغرائبية الضاربة التي مثلت افرزاً للإحتدام الداخلي ابان الحرب أو الافتعال الطائفي.

وتتناول قصة (الأب الشمبانزي) قضية فيها كثير من الغرابة أيضاً وهي تتحدث عن حالة العقم عند إحدى النساء بعد أن عجز الطب ونذرت نذراً غريباً إذ ولدت وليداً فيه كثير من صفات القردة، ويتم البحث عن فرد لكي يتسلى مع الوليد رويداً رويدا يتحول الاب الى شمبانزي “نجد أن الاب بقي على حاله القردي يعاني من وحدته وكآبته المزمنة كلما قسى عليه الزمن والشيخوخة معاً”.

وفي قصة (الحافية) تتكرر ثيمة العقم أو تحديد عدم الحمل على الرغم من كل المحاولات والفحوصات والإجراءات الطبية. وتنذر السيدة مريم وزوجها عبد الرحمن نذراً ويتوجهان إلى الأئمة والصالحين وكل منهما يذهب إلى ضريح طلباً للشفاعة ورزقهما بوليد لكن الأقدار الغرائبية تجعل السيدة تلد توأماً وفي النص دلالات واحالات كثيرة تشير إلى التناغم الاجتماعي برمزية تقديسية، ونجد نصاً مهماً يتناول تظاهرات تشرين 2019 وما حدث فيها من نسق غرائبي ومن صدام بين جيل الرفض والسلطات التي تعيش في الشراهة المسعورة للتسلط والنهب وتسرد الأحداث قصة عشق الشاب يوسف للستوتة وبعد احداث كثيرة يسقط شهيداً في المصادمات الدموية وتبقى (ستوتته) شاهداً على ترجل الفارس عن صهوة جواده والقصة توثيق لغرائبية ما حدث في هذا الصراع السياسي الدامي.

ونلحظ في نص (السيد بطيخ) استثماراً لتقنية أو اسلوب الميتاسرد والمزج بين غرائبية القصة ومزجها بالفيلم التسجيلي وسرد معاناة وفقر الحوذي (بطيخ) وسعيه للحصول على أموال الزكاة من السيد (بطاط) وحين يصل إليه يكتشف أن (السيد) يوجهه للعمل بسلب الموتى الحلي والمعادن التي تدفن معهم والقصة احتدام غرائبي لتصوير الواقع الذي يدين ما حدث من اضطراب قيمي وأخلاقي لمرحلة ما بعد الاحتلال.

وتتحدث قصة (طارق الباب) عن مصادفة غريبة تشابه الاسم (سركون بولص) وسركون بولص حنا، وما يعانيه الأخير من التهجير ومكابدة المنفى وتكشف عن تراجيديا ما حدث للمسيحيين من قهر وسلب ابان احداث الاحتدام الداخلي، ونجد السرد العجائبي جلياً في قصة (ثور من الغيوم) والثور الزجاجي الذي يقتحم ويغزو الأرض مما يجعل الناس يهاجرون بحثاً عن الأمان “حدثت معارك كبرى وصراعات متتالية انتهت بقتل الثور السماوي الأوّل شر قتلة. واندحرت كل خططه وهربت ضباعه ولم ينفع استبدال جلودها بقطط أليفة”.

ونلحظ في هذه السردية العجائبية احالات إلى واقع ما بعد الاحتلال وتحالف منطق القادمين مع منطق الغنائميين وتحول السلطة والتسلط إلى غول ثوري يشبه الكائنات الميثولوجية ويتحول المكان إلى مكان (دسيتوبي). أمّا قصة (منديل الماركسي) فهي كما أشرنا في المستهل تجسد سيرة حياة الروائي الراحل حميد الربيعي وما جرى له منذ أن توجه إلى عدة منافي هرباً من عنف واقصاء ابان احداث نهاية السبعينات وما عصف بالعراق من أحداث بسبب الصراع السياسي والاحتراب الاقصائي الحزبي وانهيار الجبهة الوطنية مما جعل كثير من اليساريين يطلبون اللجوء إلى المنفى هرباً من جحيم السلطة وهي تعيد انتاج البيان (13) سيء الصيت لتصفية اليسار عبر اسلوب جديد، مما جعل (حميد) يتجه إلى الصحراء ويصل إلى الكويت ومن ثم يتوجه إلى سوريا وليبيا وتونس والمغرب وسويسرا والمانيا. لكن روح الإنسان المغترب يسارياً كان أم غيره يظل يرقب بعينه وحواسه ما يحدث في البلد، والقصة تسرد بضمير الأنا وتدفق الروي بصيغة تيار الوعي واستذكار الأحداث بعد أن أصيب البطل بالنوستالوجيا، “كنت اراقب الوضع العراقي من خلال الأخبار الواردة في جحيمه كل يوم بعد 2003 وزوال نظام الدكتاتور الرهيب حتى قررت في يوم ما العودة إلى العراق في عام 2009” .

ويتم سرد الاحداث الغرائبية التي وثقت تفاصيل عودة (حميد الربيعي) وهو لا يملك أي عنوان أو مكان يلجأ إليه ويبدو غريباً تماماً عن واقع غريب وبعد معاناة ومكابدة يصل لابن اخيه (الحاج جميل) وزوجته العجوز (فضيلة) ويبدأ العناق والاستغراق في الذكريات وتبادل الوجع ويتأمل حميد وغيره ما الذي حدث وما الذي فعله الرفاق بعد هذه التراجيديا وورد في حوار مع أخيه: (وينهم ربعك شو لا حس ولا خبر). كانت معاناة حقيقية دفع ثمنها (حميد) من عمره حتى ودّع الدنيا من غير رجعة.

عرض مقالات: