اخر الاخبار

شارع الرشيد عمارة المفتي الطابق الثالث الاخير.

احداث ما قبل الطوفان

لم يعد بالأمر اليسير، كما كان منذ عقد مضى الى غير رجعة، ان يسند هيكله الذابل، بات مسنا جدا بأذنيه المتهدلتين، بعصاه الطويلة التي يتفقد بها موطئ خطواته المتثاقلة التي انتهت به منتصبا في وسط الميدان الكبير الذي يشطر جانبي مدينة الآثام الى نصفين، لم يتمالك اعصابه ،اذ استرسل يزعق بصوته الواهن، يحذرهم من اقتراب يوم الدينونة، اخبرهم ان الرب غاضب جدا ومتذمر حد الحنق لانهم مذنبون ومارقون، ولكن كرجل شحذته التجربة ، بحكمته، التي لم تجدي في الافصاح عن وعيد القدير، ادرك ان لا جدوى من الصراخ الذي اهدره، بينما الصخب والخمر ينسلان كأفاعي ناعمة في طرقات المدينة الفاجرة، اخبره بموعد يوم الدينونة، في اليوم الموعود ، اغلقت الكوة الوحيدة في برج سفينته الهائلة ، بانتظار الطوفان في الوقت الذي انهمك به كهنة معبد اله المدينة الضالة، بإقامة شعائر تقديم القرابين والاضاحي ، تعالت صيحات النساء المذعورات، حينما اخترق الثور الابيض الضخم بخواره المخيف، الطريق الضيق الذي اختنق بالمخمورين، الطريق التي تنتهي عند بوابة المعبد، هناك يتربص الكاهن، ينتظر الضحية المذعورة التي تعدو في الطرقات على غير هدى، وهو يمسك بحربة لامعة طويلة، سيطعن الثور الهائج بين عنقه الضخم وكتفه فتنزلق الحربة بين طيات اللحم، حتى تقطع شرايين قلبه فيجثو القربان على ركبتيه هامدا بلا حراك ، حينها ستغرق المدينة في عتمة الجنس والخمر و لا تبالي بالسماء المكفهرة التي اختنقت بالغيوم والبروق .

فيما هو يسلط مساقط ضوء الكشاف ليضيء جسدها في الغرفة نصف المعتمة ، قالت له ، وهي تشير اليه بسبابتها كما لو كان متهما :

- نلت ثقتي ! واحدة غيري لن تقبل بثمنك ولا بشروطك .

ثم انهمكت تفرقع فقاعة اللبان التي التصقت بشفتيها القاتمتين ، وهي تخلع القميص الاصفر الضيق الذي التصق بطيات الشحم تحت مشد صدرها الاحمر.

رد بلا مبالاة ،  تعرفين ان ثقتك بي لا تقدر، ولكنك لا تهدريها هنا وهناك بلا ثمن.

وهو يسلط ضوء الكشاف الساطع، الذي غمر جسدها، حتى بدت حبات العرق التي تفصدت على وجهها، كما لو كانت لآلئ لامعة، فيما هي تحرر ساقها من الجورب الاسود الشفاف ، تخلصت من تنورتها القصيرة والقت بورقة التوت المخرمة كمنديل ورقي بملمس المخمل تحت كرسي الخيزران الذي جلست عليه، اخذ ينثر خصلات شعرها على كتفيها فيما هو يتحسس فقرات ظهرها الناتئة حرر صدرها من المشد الاحمر ، كانت واجمة وصامتة كتمثال تحدق في الفراغ الذي انسكب في عينيها ، قال لها ، وهو يهمس في اذنها بنبرات بدت لها فخا للإيقاع بها اكثر منها توددا مزيفا، يبحث عن اطفاء شبق مزمن دسه الاله في مخلوقاته المخادعة

ستكون لوحة رائعة!

هي تدرك جيدا الفخاخ التافهة، التي وضعت في طريقها منذ الخطوة الاولى التي وضعت فيها قدمها لتسلك طريق الرذيلة، ولكنها كما يحدث للجميع، عندما يكتشفون بمرور الوقت الخفايا التي تفخخ طريقهم كلما توغل الشخص ابعد في محترفه ، ها هي كمحترفة تستطيع اكتشاف الاباطيل ولكنها ستمرر رواياته فما الذي يربطها به سوى عقد مدفوع الاجر لا يتطلب منها سوى ان  تتصلب عارية في كرسي خيزران بلا مسند ظهر لتكون موديل لوحته  ، اخذت ريشات المروحة المعلقة في سقف الغرفة  تدور ببطء فأيقظت الهواء الراكد بتيارات خفيفة  .

التاريخ السري لمدينة الذنوب

في ممر الطابق الثالث والاخير، هناك لمبة وحيدة تضيء الممر نصف المعتم  منذ امد بعيد لم يعد احد يتذكره ، بضوء شاحب ، لا احد من رواد هذا الجزء  المهمل من العالم  فطن الى اللمبة الكهربائية، بفتيلتها التي تتوهج بضوء اصفر، باستثناء الرجل الثلاثيني المتجهم الغامض، بأرديته الفضفاضة واوشحته الملونة التي يلف بها عنقه، بقامته الطويلة وتقاطيع وجهه الحادة، الذي يقطن الغرفة السرية او الصومعة ، التي شهدت طوال سنوات عديدة حين اقامت  فيها الممرضة المتمرسة، جولييت، ليس بالضرورة ان نرهق انفسنا في البحث، او تحرى اصول الاسماء التي تردد هنا، في غرف وممرات هذا المبنى المعتم ، فـ اسم جولييت ، كغيره من الاسماء والالقاب في هذه العمارة فهو غالبا اما مزيف او مستعار، جولييت التي امضت سنوات شبابها في مستشفى القديس بطرس الأرثوذكسية ، قبل ان تغادر اجنحته الفخمة، لتمارس عملها كمخلصة من وطأة الفضائح التي قد تلحق ببعضهن، فهي الاربعينية التي تمتعت بجمال حسناوات السينما المصرية، المتمرسة في مهنتها التي اخضعت نساء عديدات تحت مبضعها الرفيع ، كما اخضعت مغنيات ملاهي بغداد الليلية وراقصاته المثيرات، تحت كفيها الناعمين وهما يتسللان بخفة ونعومة افعى تبحث في الرحم المستفز المليء باللزوجة لتنتزع سره ، كما اضطجعت على طاولتها الصلبة بغطائها ناصع البياض الكثير من مومسات شارع الرشيد، كن مستسلمات ووديعات وصامتات وهي تنتزع فيها اجنة لم تتشكل ملامحها بعد، انها المخلصة التي  تتلذذ بأعمالها المكتملة ، فهي تحتفظ ببعض الاجنة التي تشكلت ملامحها في انيه زجاجية مليئة بالكحول النقي الذي تتناول منه ثلاثة كؤوس صغيرة بعد انجاز مهمتها في انقاذ العاهرات من الفضيحة كما تستخدمه كمطهر للجروح الشنيعة التي تحدثها في الاعضاء التناسلية لضحايا الرذيلة واللذة والخديعة  ثمة خديعة ، طالما هناك مال فلن تجد اي اثر للخديعة، هاجرت جولييت الى ديترويت في منتصف الستينات، بعد ان اخفقت في انقاذ  الفتاة الجميلة الصغيرة التي لم تبلغ بعد عامها الخامس عشر التي شعرت بآلام الحمل  بعد معاشرة غير شرعية، كانت فيها ضحية خداع قريبتها السمسارة التي حاولت طمر الفضيحة ، كونها كانت شريكة في خداع الطفلة ، التي ماتت لاحقا بسبب التهاب الرحم بعد ان ثقبته جولييت حين فاجأتها الصبية وهي تنتفض بسبب الم الوخزات، وهي تحاول قشط الثؤلول المدنس، بملقط طويل دسته في مهبلها ، انها الغرفة الصومعة السرية نفسها بكل تاريخها المدنس واجنتها والمؤخرات والدماء التي سفكت على طاولتها الصلبة ، الغرفة التي تشغل نهاية الممر.

مقابل ثمن بخس استأجر الغرفة ، التي تحولت فيما بعد الى صومعة للخمر وستوديو لرسم النساء العاريات ، المومسات المتمرسات اللواتي يحترفن الاغواء في شارع النهر العريق ، في قلب المفترق والتقاطع الذي يقودك الى شارع الرشيد عبر شارع المال، هناك المحكمة الشرعية التي اقيمت في وقف سيدة محسنة تتحدر من اصول عثمانية سلطانية،  تحول  بعد موتها الى مقبرة وجامع صغير اقيم على حديقة الفناء الخلفي، الذي يطل على نهر دجلة، شارع النهر وصومعات السحرة الذين يقرأون الطالع بتقاطع مدارات الكواكب للإيقاع بالمطلقات اللواتي ارهقتهن العزلة  والوحدة  ، نساء  يبحثن عن سحر اسود للفتك بزوجات عشاقهن ، عجائز متصابيات ، رجال يتوسلون بزيت الافاعي ومسحوق غبار العقارب لإنقاذ رجولتهم الغابرة من العجز ،  عاهرات يبحثن عن توبة مفقودة في مدينة الضلالة انه شارع الذهب والاغواء ، شارع الحب واللذة الذي لا يبعد سوى خطوات عن صومعته السرية ارث الممرضة جولييت وتاريخها العريق  في عمارة المفتي التي تضم مكاتب محامين مخضرمين يقضون اوقاتهم في احتساء العرق  وطبيب امراض تناسلية يمكن عده الوريث الشرعي لتاريخ جولييت الغابرة وطبيب اخر للقلب ومكاتب اخراج جمركي ،  انه الممر نصف المعتم الذي يتلقى مساقط  ضوء شمس الظهيرة عندما يتسلل عبر نوافذ العلية التي تحتضن السلالم الخرسانية ، مساقط الضوء الخافت التي تزحف ببطء في منتصف الممر و هي تتسلق الجدران فتضيء المكان بضوء شاحب حتى تختفي عند انزلاق شمس الظهيرة في الساعة الثانية بعد الظهر ، في حقيقته يبدو الممر قبوا طويلا ضيقا بسقفه الواطئ كالملاجئ التي شيدت خلال الحرب العالمية الثانية  اكثر منه ممرا مظلما يشطر المكان الى نصفين  تطل عليه ابواب غرف الطابق الثالث والاخير، في منتصف الممر تواجهك السلالم التي تقودك الى السطح  المهجور ، في احد جواب السطح ستجد جثة موتورسيكل بريطاني من بقايا الحرب الثانية ، صناديق خشب مدموغة بارقا واحرف انكليزية ، اسرة حديدية نخرها الصدأ ،  انها ذاكرة  المبني ، المهملة ، الذي شيد في نهاية الاربعينات ، اي شخص يدخل بطن هذا الحوت الهامد المخلوق من الاجر والكلس  واعمدة الخرسانة التي اخذت تتفتت ، المبنى الذي يختنق بالرطوبة والعفن الاخضر الذي تسلق حافات جدرانه التي طلست بطلاء سميك ببياض يميل الى الاصفرار،  يستطيع  قراءة تاريخ تشييد هذه البناية القديمة بطوابقها الثلاثة في لوحة التعريف التي ستلفت انتباهه لانها ستبدو كما لو كانت كائنا حيا في نزعه الاخير ، تدلت  وهي تتشبث من احد طرفيها بمسمار واحد ، عمارة المفتي شيدت عام 1949.

 

عرض مقالات: