في صبيحة يوم مشرق من أيام مدينة القدس العربية، وفي ساحة إحدى مدارسها الإبتدائية المختلطة، حيث الشمس ترسل أولى خيوط إشعاعاتها الذهبية الدافئة بعد أن  أزيح القناع الأسود الذي ارتدته السماء مرغمة عدة أيام مضت عن وجهها الأزرق الصافي، وقد سكتت طبول الرعد، وخفِت لميع البرق، وثمة علم فلسطين يرفرف في منتصف تجمع تلاميذ المدرسة الابتدائية الصباحي لقراءة النشيد الوطني الفلسطيني، بعد أن رفع على ساريته، وقدمت له التحية له، وقف أحد معلمي المدرسة بين صفوف تلامذة المدرسة الصغار الذين كان الصمت يسري بينهم كالهواء، والاذان تتسمع، فيما راح هو يقرأ من ورقة بيضاء غير مسطرة إلّا إن كلماتها كانت مرتبة ومنظمة بصورة جلية، وجيدة، وهي رسالة قد وصلت اليه بعد أن بعث بها من العراق قبل يومين المعلم العراقي الأستاذ نضال العراقي، شاكرا عملهم الذي قاموا به، قال بصوت عربي، وجهوري، مفهوم لكل الحاضرين:

الى معلمي مدرسة القدس العربية الابتدائية المختلطة في فلسطين العربية المحتلة المحترمين.

الى الأستاذ سلام أبو حجارة المحترم.

الى أبنائي تلميذات وتلاميذ مدرسة القدس العربية الابتدائية المختلطة المهذبين.

هكذا بدأ الأستاذ سلام أبو حجارة قراءته للرسالة التي بين يديه في التجمع الصباحي لتلاميذ مدرسة القدس العربية الابتدائية المختلطة، والتي يعلّم فيها مادة “الوطنية”، ردا على رسالة معلمي المدرسة التي بعثوا بها إليه، وذكروا فيها أنهم، وبالتعاون مع ذوي التلميذة مسيرة أبو الهمم ابنة أخ حارس مقبرة الشهداء العراقيين عام 1948 في جنين، قد سافرت الهيئة التعليمية، وبعض تلاميذ المدرسة، الى مدينة جنين لقراءة الفاتحة على الشهداء، وعلى جده الشهيد، ووضعوا أكاليل من الزهور على قبورهم.

عندما وصلت الى الأستاذ أبو حجارة رسالة الأستاذ المعلم العراقي نضال العراقي، اتفق مع أعضاء الهيئة التعليمية في المدرسة، وتلامذتها، الذهاب الى مدينة جنين بسفرة مدرسية للتعرف على معالم المدينة الفلسطينية، وكذلك لتنفيذ طلب المعلم العراقي في زيارة مقبرة شهداء الجيش العراقي، وقراءة الفاتحة على أرواحهم الطاهرة، ومن ضمنهم جده الذي سقط شهيدا وهو يدافع عن عروبة فلسطين.

كان العلم الفلسطيني يرفرف عاليا فوق ساريته الطويلة المطلية بدهان أخضر ليرمز الى أرض فلسطين الخضراء، المزهوة بأشجار الزيتون، فيما أرضية ساحة المدرسة التي يقف التلاميذ فيها معبدة بالكونكريت المسلح الصلب كصلابة فلسطينية أرض الأجداد، وما زالت بقايا مياه أمطار الأيام السابقة تتلألأ فيها، وكان المعلم يقف تحت العلم المرفرف منتصبا وهو يقرأ كلمات الرسالة.

عندما وصلت الهيئة التعليمية، وتلامذة المدرسة، في سيارة الباص الطويل، الى مدينة جنين، وبعد أن زاروا ما فيها من معالم وآثار ذكرتهم بما كانت عليه فلسطين قبل عام 1948، ذهبوا الى  مقبرة شهداء الجيش العراقي.

كان انتباه أذهان من كان في هذا التجمع الصباحي، من معلمين وتلامذة، الى صوت الأستاذ سلام مشدودا، والأبصار ترنو الى حركة شفتيه التي تنطق الكلمات بعربية فصيحة، والأيدي مسبلة على الجانبين، كان كل شيء ينصت الى كلمات الرسالة.

في مدينة جنين، وفي مقبرة شهداء الجيش العراقي، كان عمّ التلميذة الفلسطينية مسيرة أبو الهمم، تلميذة الصف السادس في المدرسة، وهو رجل كبير السن، حارسا للمقبرة، قد أعانهم على التعرف على قبر جدّ المعلم العراقي.

تابع المعلم الأستاذ سلام قراءته سطور الرسالة:

- اخواني أعضاء الهيئة التعليمية.

كان المعلم العراقي الأستاذ نضال العراقي قد أرسل رسالته هذه الى معلمي المدرسة، وبالخصوص الى صديقه المعلم الفلسطيني سلام أبو حجارة الساكن في مدينة القدس العربية، وهو من عائلة كبيرة تسكن في مدينة جنين، ولها فروع في المدن الفلسطينية كافة، وفي بعض الأقطار العربية، وقد تعرّف عليه في بغداد أثناء زيارته لعائلة عمه الفلسطيني الذي هاجر الى العراق بعد نكسة حزيران عام 1967، يطلب فيها أن يبحث عن قبر جده الشهيد في الحرب العربية الاسرائيلية، في مقبرة جنين للشهداء العراقيين.

استمر الأستاذ سلام أبو حجارة بقراءة ما جاء في الرسالة التي تتضوع رائحة عراقية معروفة، وتفوح منها ذكريات سفرته تلك الى العراق حيث تعرف على جار عائلة عمه في بغداد الأستاذ نضال العراقي. قال وهو يقرأ ما في الرسالة من كلمات أحس بها وهي تتراقص طربا بتلاوتها وهو يناشد جمع من معلمي القدس العربية:

- أيها الأعزاء، يا من كنتم، وما زلتم، تنيرون الطريق لأطفال وصبية فلسطين الجريحة في معرفة عدوهم، وأفعاله العدوانية، نحن مثلكم نفتح أمام أطفال وصبية العراق الطريق مضيئا ليكونوا على بيّنة من عدوهم المستعمر، والمحتل، والمغتصب لأرض فلسطين الحبيبة، اسرائيل هي عدوكم وعدونا اللدود، هذا الكيان المسخ والغاشم الذي أسسته الصهيونية العالمية بالتعاون مع المستعمر الانجليزي، ومن ثم استلمته أمريكا حامية له، فكان تحت رعايتها كالطفل الربيب، وما هو بطفل ربيب. أسس على وفق نظرية تقول: تجميع شعب من الشتات واسكانهم أرض لا تعود لهم، وطرد شعبها.

كان العلم الفلسطيني المرفرف فوق رأس المعلم الفلسطيني الذي يقرأ من رسالة المعلم العراقي، بألوانه الأربعة، الأخضر، والأبيض، والأسود، والأحمر، هو رمز للثورة العربية التي قادها الشريف حسين، وقد تبنته دولة فلسطين ليكون لها علما يرمز الى سيادتها على كل الآرض الفلسطينية، من البحر الى النهر.

سكت الأستاذ أبو حجارة، مدّ بصره الى الأعلى حيث يرفرف العلم الفلسطيني، ثم مر بنظره على من يقف أمامه، وعلى يمينه وشماله من التلاميذ والتلميذات، نظر الى معلمي المدرسة من زملائه، وهم يقفون في صف واحد، أخذ نفسا عميقا، أخرج منديله من جيب بنطاله، مسح قطرات العرق المتصببة من فرط حماسته، عن وجهه الحليق، بعد أن شعر بلفحة ساخنة من ريح هبّت في الساحة وقد توقف المطر والبرد فجر هذا اليوم بعد عدة أيام كانت فيها السماء ملبدة بالغيوم، والمطر ينزل بشدة، والبرد قارصا، ثم راح يتابع قراءته للرسالة، بصوت يصدح بين الجمع عاليا، شارحا فيها كيف اغتصب الصهاينة أرض فلسطين، ودور الاستعمار الانجليزي في ذلك، وكيف أصبحت أمريكا صديقة وحامية لهذا الكيان المغتصب.

سكت على مضض بعد أن تذكر جريمة أمريكا ورئيسها ترامب بضم مدينة القدس العربية الى الكيان الصهيوني، بوصفها عاصمة له، ردد مع نفسه: (وهب الأمير ما لا يملك)، أطلق آهة كبيرة وطويلة.

كانت كلمات رسالة المعلم العراقي قد أثرت كثيرا في أذهان سامعيها الكبار والصغار وهي تنساب كانسياب ريح هادئة، لكنها قوية، ومؤثرة، وكان صوته هادرا وهو ينقل الكلمات المسطرة على الورقة البيضاء الى أسماع زملائه المعلمين، وأسماع التلاميذ الصغار الذين أعاروا أسماعهم له.

عندما دلهم عم التلميذة مسرة أبو الهمم على قبر جد المعلم العراقي، راح الجميع يقرأ سورة الفاتحة عليه، ثم وضعوا أكاليل الزهور التي جلبوها معهم من مدينة  القدس العربية على القبور كافة.

قال المعلم الأستاذ سلام أبو حجارة متابعا قراءة الرسالة وقد شعر بشيء من الحماسة: لقد أخطأ الرئيس الأمريكي خطأ تاريخيا، وجغرافيا، واجتماعيا، وثقافيا، عندما أعترف بأن تقوم لاسرائيل دولة، فلا دولة لها، ولا عاصمة.

انتهى الأستاذ أبو حجارة من قراءة الرسالة التي شكر فيها المعلم العرافي شعب فلسطين، والهيئة التعليمية لمدرسة القدس العربية وتلامذتها. وراحت جدران بناية المدرسة تردد صدى التصفيق المنبعث من أكف الواقفين في الساحة المبللة بماء مطر الأيام السابقة، وقد أضفت عليها أشعة الشمس تألقا، وزهوا، وثمة دموع نزلت من بعض مآقي الصبية، وبعض المعلمين، وهي تعلن عن التأثير القوي لرسالة الأستاذ العراقي بين أشقائه الفلسطينيين.

تعالى التصفيق الحاد من قبل الهيئة التعليمية والتلاميذ وقد تردد بين جنبات بناية المدرسة وخرج الى الشوارع والبيوت والساحات.

عرض مقالات: