تتمثل سيرة الفنان خالد الذكر عاصم فرمان بمنعرجات عدة، يتقدمها الحس الانساني بكل تأكيد، وبعدها الفن والدرس الأكاديمي والعمل النقابي، ومواصلة البحث، وأشياء أخرى. هذه الصورة التي تشكلت لدى الآخرين ولدي بالطبع، إذ رافقته بمسارات متعددة منذ كان مقرراً لقسم التصميم بداية تسعينيات القرن الماضي عندما قدمت لدراسة الفن في كلية الفنون الجميلة، واستلهمت من دروسه الأكاديمية بداية هذا التطلع، وظل بعدها تواصل نبيل بيننا، إذ شغل منصب رئيس جمعية التشكيليين العراقيين في عمله النقابي المرتبط بالفن، بوصفه رساماً من جيل التمانينيات، له حضوره النوعي وتجربته الخاصة. ثم اشتركنا في لجان علمية في كليات الفنون الجميلة، فضلاً عن الرفقة التي كانت ممتعة نغني الحوار عن الفن وعلم الاجتماع والثقافة ومواضيع متعددة كانت معرفته بها كبيرة ودقيقة، فضلا عن انفتاحه المجتمعي، فهو يمتلك علاقات انسانية واسعة مع أشخاص غادروا الوطن والحياة لم تك متوقعة. موسوعي المعرفة من خلال علاقته بالشعر والرواية والمسرح، وأجناس الابداع الأخرى، يقرأ ويكتب ويحاور ويتواصل بشكل يومي مع الرسم خلاصة لجميع معرفياته التي تصب في خدمة هذا الحقل وأغراضه الجمالية، تُوجت أخيراً باختياره لمهمة عمادة كلية الفنون الجميلة في جامعة أوروك الأهلية ببغداد. كان دقيقاً في آرائه وخياراته وتحديد مكامن الخلل في النص البصري والنقدي، فضلاً عن مكامن الجودة فيه من خلال وجوده عضواً في قراءة نصوص الكتب التي تواصل جمعية التشكيليين العراقيين اصدارها عن جيل الريادات الفنية وما بعده، وحريصاً على معرفة التوصلات والتكليفات على الرغم من مشاغله.
كذلك نجد في حفرياته الخاصة الشكل البصري وتطويره منذ بداية ثمانينات القرن العشرين وحتى الآن، إلا أنه مشغول بفعل الأرشفة للفن التشكيلي العراقي صوراً ونصوصاً، بما يخدم هذا المشهد. هذا الفعل (الأرشفة) الذي يراه متراجعاً وعلى الجميع أن يقدم ما يستطيع لكي تصبح لدينا وثيقة يُمكن الرجوع إليها أثناء عملية البحث والتوثيق، وقد تسير لديه مع حفرياته المُخلصة إزاء موضوعات الجمال وتطوير سطحه البصري الذي عمل عليه طويلاً. وعلى الرغم من الانشغالات الأكاديمية والمهنية أو النقابية وابتعاده عن الوطن فترة ليست بالقصيرة، إلا أنه كان وما زال دائم التواصل مع الفن العراقي ومنتجيه، ومتواصل مع ما تنتجه المخيلة الابداعية عربياً وعراقياً والاشارة اليها أو الكتابة عنها، حيث صدر له مؤخراً في عمان كتابين يلاحق فيهما التجربة التشكيلية، وخصوصاً حقل الرسم واضاءة جوانب مهمة تتأتى من القراءة التأملية لمجموع التجارب التي أشار اليها، إذ قدم كتابه الأول عن الفنان الراحل (كاظم حيدر) وتجربته التي امتازت بحداثتها المُبكرة في التشكيل العربي والعراقي على وجه الخصوص وحللها ضمن آلية نقدية أفضت بها مناهج الدرس الجديد. أما الكتاب الثاني فتناول موضوع اشكالي تمت مناقشته في أجناس شعرية وثقافية هو (الثابت والمتحول) وتحديد المسارين من خلال اشتغالهما في التجربة الرسومية العراقية، بما يخالف أحياناً الطروحات السائدة والمكررة عن مجموعة تجارب أو عن الظاهرة الرسومية العراقية، ما نتج عن هذا اضافة نوعية ومستوى المكتبة التشكيلية التي تفتقر الى الكثير من القراءات النقدية والتأملية.
وفي خضم هذا الانشغال الكبير لم ينس تجربته الخاصة، أو يُهملها، وظل يجرب على السطح ضمن أربعة عقود مضت، على الرغم من عدم الضجيج أو الاعلان عن هذه التجربة بصوت عالٍ، فهو يعمل بصمت وهدوء كبير، إلا أنه يتقدم بخطى واثقة الى مثابات جمالية، بدءاً من امتلاكه ناصية المعرفة الأكاديمية في رسم الواقعة وجميع المشخصات التي يستند اليها الرسم، بوصفها بداية تقليدية صائبة للتمهيد بولوج هذا الحقل الفني الذي يحتاج الكثير من الخبرة والرؤية المتقدمة في انتناج خطاب جمالي مفارق، وصولاً الى خلاصات جمالية، أو مثابات مُتقدمة يمكن الاشارة اليها باحترام، مروراً بما بينهما من لحظات تعبيرية أو ممارسة فعل التخطيط المتواصل الذي يحقق نتائجه في المنجز النهائي. بيد أن خلاصة تجربته تتضمن في العبور الى ضفة التعبيرية التجريدية، وصولاً الى التجريد لموضوعات الخارج التي يصطيفها لسطحه التصويري، واعتماد مبدأ الاقتصاد في اللون الذي يصل الى التقشف أحياناً خدمة للموضوع النهائي، أو بنية الشكل الكلية الموحية بالدلالة في ضوء العلاقات الناتجة من قيم اللون هذه ، بما يوصله في النهاية الى تحليل اللون الواحد لانتاج تضادات أو تكاملات على أساس الواحدية اللونية التي يتقصد فيها الألوان المُعتمة مثل (الأحمر القاتم، أو الأزرق، أو الأسود) مع معالجاتها بطريقة تؤدي الى بنية جمالية تحتفظ بالقيم الفنية في التعبير والدلالة. بيد أن مراحل حياته الأخيرة جعلته يذهب الى العتمة المباشرة (الأسود) ومستوياته المتدرجة الى تشييد خطابه البصري في ضوء ترجمة محمولات الواقع والحياة على روحه النابضة بالمحبة، وأن الفن هو المسار الوحيد المُعبر عن دواخله ووجدانه، ولذلك تحول سطحه الأبيض الى شيء يشبه الكتل السواء المتداخلة.