اخر الاخبار

هذا الجرف البائس من شط الحلة - الظاهر في الصورة – محصور بين مقر بلدية الحلة و”حديقة النساء”. وكان في القرن الماضي فردوسا لشباب الحلة. إذ كان الساحل مفروشا بالرمل النقي الناعم كمهد ومجال رائع للسباحة خلال الصيف بين الظهيرة والغروب.

لم نكن نستطيع دخول “حديقة النساء” في ذلك الزمن، بسبب صرامة حراسها الذين يعاقبون بشدة من يقطع وردة من أغصان شتلاتها، او يقطف ثمرة من اشجارها اليانعة المانحة.. كانت الساعات هناك تمرّ سراعا ونحن نجتمع بمحبة بعيدا عن عيون الأهل الخائفين علينا من الغرق.. هنا شاهدت حوادث كثيرة عن أطفال وشباب ورجال غرقوا فجأة دون أن ندرك اسبابا واضحة لغرقهم حينها. وهنا أيضا شاهدتُ معارك دامية بين معلمين من أنصار اليسار واليمين وكيف قذفوا معلما في الشطّ عقوبة لأفكاره اليسارية! وهنا أيضا كان “نجم البلام” الذي يعبّر الراغبين بـ “بلمه” الصغير إلى الضفة الأخرى لقاء اجر زهيد.

هنا تعلمت السباحة مبكرا واستطعت عبور الشط عوما، لكن بصعوبة، بسبب قوة المياه الجارية.. هنا اصطدت اول سمكة صغيرة، وهنا أيضا غرق اخي الكبير (سهيل) الذي لم نستطع انتشال جثته الّا بعد يوم كامل وبمحاولات بحث شاقة.. هنا كان بيت المتصرّف، حيث اللقالق تراقبنا في عبثنا ولعبنا ومكرنا و(ختلاتنا) ومغامراتنا الصبيانية المدهشة. هنا كان فردوسنا المفقود الذي اكتشفناه مبكرا.

اليوم، كلما مررت على هذا المكان وهو يعيش محنته الكبرى، تقفز من ذاكرتي سنوات تنث جمالا ومحبة وألفة وبساطة وألقا لا ألق مثله ابدا.. مع الأسف قتل الرجال الجرف – فردوسنا - تحت وطأة الإهمال في زمن اقل ما يقال عنه انه زمن الخراب وضياع القيم.. زمن النهازين والمتصيدين في المياه العكرة وسارقي المال العام نكاية بالمدينة وشعبها. فهذا إذن زمن الحلة المنتهب الآن بلا رأفة ولا رفّة من ضمير حيْ.. أما أنت أيها القلب العاشق مثابات ذاكرته الأولى وبصمات خطاه وهو يقطع الطريق بين الطفولة والكهولة، ما زال يحدوك أمل في مدينة أردت لها الجمال والنقاء والعمران والسلام ولم يتحقق للآن..

طوبى لك أيها الحالم الباسل الذي ما زال متمسكا بحلمه الحليّ الجميل العنيد..

أين هي الحلة الآن!؟

عرض مقالات: