اخر الاخبار

بالنسبة لعلم نفس المجتمعات والتربية والسلوكيات الجمعية، تُعَد الثقافة امرًا حاسمًا في مستقبل الأجيال الجديدة، على صعيد الصحة النفسية، وكذلك الحيوية الاقتصادية وتماسك النسيج المجتمعي، ولعل الأمر مرتبط طرديًا مع طبيعة الحياة الاقتصادية وما تعكسه من ظلال على سلوكيات الأفراد وممارساتهم وفهمهم لعمليتي التربية والتعليم من جهة والترفيه الهادف من جهة أخرى.

وانطلاقًا من هذه الحقائق، لابد لنا من تأمّل موقع الثقافة في أدبيات وبرامج وميزانيات السلطة، الذي هو بالضرورة انعكاس حقيقي لفهم القوى والأحزاب السياسية المكونة للحكومة والسلطة التنفيذية.

إن نظرة فاحصة وسريعة على ما جاء في الخطاب ـ البرنامج الحكومي ـ الجديد الذي تُلي في البرلمان، تكشف لنا مدى تدهور مكانة الثقافة في وعي وفهم سياسيي السلطة، وطغيان الفهم النمطي للثقافة ودورها التنويري والحيوي على الصعيد المجتمعي والاقتصادي.

إنّ غياب أيّة إشارات، حتى ولو من باب تمثل الاهتمام، عن الخطاب الحكومي، يدل دلالة واضحة على اهمال دور القطاعات الثقافية بأنواعها، ناهيك عن غياب التخطيط لمستقبلها ومتطلبات عملها وتطوره. وهو ما يبرر إصرار الحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام السابق حتى اليوم، على عدم تبني أية تشريعات تدعم وتنظم عمل القطاعات الثقافية، لاسيّما على صعيد توفير الدعم المالي اللازم لديمومة النشطات والفعاليات، على الرغم من كثرة المناشدات. الأمر الذي يوحي بوجود رغبة دفينة لدى أحزاب السلطة ومن يهيمن عليها، لتطويع القطاعات الثقافية وربطها بتلك الأحزاب، سواء بالترغيب ـ إغداق المال على بعضها ـ أو بالترهيب ـ إهمالها والتضييق عليه، بحسب قربها وابتعادها عن مآربهم السياسية وأطماعهم السلطوية، والإيعاز، في الكثير من الأحيان، لبعض الجهات الحكومية وشبه الحكومية، بمكافأة هذه المنظمة أو تلك دون المنظمات الأخرى.

إن مثل هذه السلوكيات المنحرفة سببها بالتأكيد غياب التشريع الثقافي، وعدم تخصيص ميزانية واضحة وثابتة لقطاع الثقافة في الميزانية العمومية، ينظم صرفها بقانون واضح وعادل تشرف على صياغة بنوده العامّة المنظمات والنقابات الثقافية نفسها، لتحريرها من هيمنة الدولة وأدواتها، وإبعادها عن نفوذ الأحزاب ومطامع السياسيين الفاسدين الذي ما فتئوا يخربون كل ما هو مشرق ووطني ونزيه في بلادنا المبتلاة بهم.

إنّ تلك الأموال التي من شأنها تحريك عجلة الثقافة العراقية وضخ الدماء في عروقها، قد لا تساوي عشر أعشار المليارات التي تُسرق من الدولة وميزانيتها على مدار العقود الماضية، كما أن ترك تمويل ودعم الفعاليات الثقافية هنا وهناك لأمزجة السياسيين المتنفذين ومن يرتبط بهم من مؤسسات ـ فاسدة في الغالب ـ والإصرار على عدم تشريع القوانين الخاصة بتنظيم عمل النقابات والاتحادات الثقافية والفنية وضمان تمويلها بطريقة عادلة ومستقلة من ميزانية الدولة بشكل مباشر، هو أحد أهداف الأحزاب التي تسعى لإدامته، من أجل التحكم بالثقافة ومفاصلها وجعل المثقف العراقي تابعًا ذليلًا لما تتصدق به عليه من دعم مشروط.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إفتتاحية «الطريق الثقافي» العدد 112

عرض مقالات: