اهداء الى جميع رفيقاتي النصيرات الشيوعيات العراقيات، لما خضن من تجربة اثبتت ان المرأة العراقية قادرة على كل شيء.. في الفترة الاخيرة تولدت في روحي رغبة ان اترك شيئا الى ابنتي، رغم ان الاهداء في هذا الكتاب الى رفيقاتي النصيرات اللواتي خضن هذه التجربة الكبيرة بكل فخر واعتزاز.

(ئاشتي)

كتاب نساء عراقيات لرفيقنا الراحل سهيل ناصر فاضل ( ئاشتي ).. صدر مؤخرا عن دار االرواد المزدهرة في 200 صفحة من القطع المتوسط.. يجمع كتابات وقصصاً قصيرة واشعاراً كتبت منذ 1969، موضحا  انه احرق اغلبها في المدفأة الخشبية مثلما احرق العديد من القصائد. كتب الى صفحة المرأة في “طريق الشعب” معالجا في كتاباته قضايا المرأة العراقية المعاصرة وكانت التجربة الاولى (هموم امرأة العقد الرابع) تعالج قضايا المرأة والموقف منها في ظل الفساد المستشري في اغلب الدوائر الرسمية وكانت تنشر تحت اسم نجمة عبد الحسين، ثم (تداعيات ربة بيت) ونشرت تحت اسم هدى عبد الباقي وكذلك (من اوراق معلمة متقاعدة) تم التركيز فيها على انقلاب شباط الاسود ونشرت تحت اسم نبيه احمد النعيمي، و(يوميات طالبة جامعية) تحت اسم حنان عبد الحسين واخرها كانت (ربع احجاية) تحت اسم ام جاسم.

في تجربته الاولى يتحدث بصوت نجمة ابنة الشرطي التي حملها بين يديه يوم ولادتها ليطلق عليها اسم امه.. نجمة التي زحف عمرها نحو نهاية العقد الرابع دون ان تتوفر لها فرصة العيش مثل خلق الله من النساء، زوج واطفال وعائلة واكثر ما يزعجها ليست حرارة الجو في بغداد ولا الغبار الذي لا تعرف من اي صحراء يأتي ولا من التفجيرات والعبوات اللاصقة في السيارات ولا من عدد سيطرات التفتيش والتي اجهزتها لا تميز بين العطر والعبوة الناسفة وانما من الازدحام في السير ناهيك عن متاعبها في الدائرة والتي تبدأ بموظف الاستعلامات الذي يحاول ان يقنعها بالزواج منه بالرغم من انه متزوج بأكثر من امرأة.. وحديثها عن موضوع زواجها المؤجل مع والدتها يزيد من ظلام حالتها النفسية المتناغمة مع ظلام البيت وتذهب دائما الى فراشها وبها رغبة للبكاء خلسة. ومنذ طفولتها لازمتها عادات منها السير دون ان تنظر ابعد من قدميها لهذا يمر الكثيرون امامها دون ان تراهم ولا تنظر في وجوه الجالسين معها في الكيا (السيارة) لتكتشف يوما، ان هناك عينان تخترقان كل ملامح وجهها حين اخطأت ورفعت عينيها،  التقت نظراته بنظراتها فاهتز كل جسدها واتضحت اثاره في احمرار وجنتيها، اتخذت قرارا ان تلتقيه وتتحدث معه بعد ان قرأت رسالته اليها في انه يرغب ان يرتبط بها على سنة الله ورسوله، ولكن خابت آمالها وقررت مقاطعة وهم اسمه الزواج لمن في عمرها، حين كاشفها بزواجه منذ عشرين عاما من ابنة عمه التي تكبره بخمسة اعوام ولديه اربعة اطفال ويريدها زوجة ثانية.. فبدأت ثلوج احزانها تلقي بصعيقها على كل مسامة في جسدها وحين غرقت في سنة النوم لا تدري مداها فتحت عينبها لتجد كل شيء غارق في الظلام.

ربة البيت هدى

تجربة تداعيات هدى ربة البيت التي تزوجت ابو حسان جاءت مكملة لحكايات نجمة، مضى على زواجها اكثر من عشرين عاما وحين انتهت عاصفة الصحراء كانت ابنتها ندى تكبر في احشائها.. وتروي في مذكراتها عن تداعيات حياتها و صعوبة العيش لقلة راتب زوجها وولادة ابنها حسان فيما بعد وروتين حياتها يبدأ صباحا باعداد الفطور لزوجها واطفالها الذين غدوا شبابا وحين تناقش ابو حسان عن لا اباليته يقول دعيهم يعيشون حياتهم كما يحبون ورغبته ان يعيشوا الدلال والرخاء وسعادته حين يجالسهم.. وحين تراجع هدى نفسها تقتنع انها مازالت تحمل بعض سمات الجمال وما زالت تلك الزوجة التي احبها زوجها ما دام لا ينظر الى غيرها ولا يرغب ان يتزوج ثانية. احبت ابنتها ندى التي كانت ترى فيها طفولتها وصباها وفيما بعد وجدت فيها اختا يتقاسمان الهموم والمشاكل. وبقيت تكتب عن هموم المواطن وما يجري في الوطن وما تعانيه مدن العراق من النقص في كل شيء ولا تكفي الكتابة فقط وقد بدأت الناس تعبر عن سخطها بمظاهرات الاحتجاج وقررت ان تكتب عنها وتساهم  فيها قدر الامكان بمشاركة ابنتها ندى والحضور في ساحة التحرير متيقنة ان الشباب هم الذين سوف يقودون شعلة الثورة في كل مكان. وتستعرض في مذكراتها كل المحطات المهة من الانتفاضة ومشاركتها وعائلتها في اغلب الجمع ومنها جمعة الغضب. وتستذكر علاقتها بام الشهيد روبرت وطيبة ومحبة الجيران وكيف كانت تناقش معهم جدوى المشاركة لواحدة مثلها في تظاهرات يوم الجمعة كي تعرف الحكومة ان الناس لا تسكت على الظلم.

مذكرات ليست للنشر

لم يدر بخلد المعلمة المتقاعدة نشر مذكراتها التي كتبت جزءاً منها قبل ثلاثين عاما لتعبر عما يجول بخاطرها، يوم كان الصمت سيد الاشياء وكانت قد اعتادت ان تكتبها في دفتر صغير تخفيه في خزانة ملابسها.. لم تكن تشكل خطرا على النظام ولا تعدواكثر من ملاحظات تتعلق بطبيعة عملها في مدرسة نموذجية.. مما يميزها انها تحتفل بعيد ميلادها كل اربعة سنوات لانها ولدت في شهر شباط لسنة كبيسة لذا كان له طعم خاص وايضا احالت نفسها على التقاعد قبل موعده بسبب ما آل اليه التعليم ولاستثمار ما تبقى من عمرها في القراءة والكتابة.. لذا نجحت في تدوين مذكراتها.. انهت دراستها في كلية البنات عام 1962 وهو نفس عام زواجها من ابن خالتها، الضابط في الجيش العراقي المقرب من الزعيم عبد الكريم قاسم يجيد اكثر من لغة اجنبية، وما زالت تحتفظ بورقة فئة عشرة دنانير قدمها لها زوجها مهداة لها من الزعيم. مع حسام وهو اسم زوجها رأت الجبال لاول مرة في شهر العسل، في سرسنك عادت الى بغداد بعد رحلة العسل ومرت ايامها براحة ودعة وكان حبها وتعلقها به يزداد يوما بعد يوم وحين علمت انه مرشح لبعثة الى الاتحاد السوفييتي لمدة ستة اشهر تعكر مزاجها وحزنت لدرجة اثنته عن السفر واعتذر من الزعيم اكراما لحبها، ويا ليتها لم تفعل ! سكنت معه في بيت منفصل وكانت فيه سيدته الوحيدة ومضت الايام الى يوم جاء ورمى كتابا امامها واتضح انه قاموس تعلم اللغة الروسية وكانت قد غابت عن ذهنها طيلة هذه الايام رغبته بالسفر فقد ودع مجموعته حزينا واكتشفت انانيتها حين وقفت حائلا بين حبيبها وتحقيق طموحاته. وشعرت بتأنيب الضمير ولم تعرف ماذا كانت تخبئ لهم الايام ولم تمر اكثر من تسعة عشر يوما حتى نزل السخط الاسود على حبهما وذبحه من الوريد الى الوريد. اختنقت من صرخة تعذر على حنجرتها اطلاقها في الفضاء، واي فضاء كان ؟ كان اصغر من خرم ابرة، ولا اثر لحسام وكل الجثث نقلت الى الطب العدلي ختم والدها حديثه معها.

حنان الجنوبية

حنان ابنة الجنوب تروي ذكرياتها يوم كانت طالبة جامعية دخلت عالما جديدا مختلفا تماما عن الذي كانت تعيشه في المدينة المشبعة برائحة قصب البردي ورطوبة نسمات المساء حيث تتناغى طيور الهور كي توقظ في الروح ضجيج الفرح المكبوت. المدينة المرعوبة من شبح سفور الفتاة كانت العباءة تغطي كاحلها والمنديل يلف شعر رأسها لذا كانت تستنجد بكل الصبر الذي تربى معها كي تعتاد الاختناق بكل شجاعة. منذ كانت صغيرة كان جميع افراد عائلة بيت عمها يرددون ان حنان لعبداالله وكانت حينها تنزوي ولكنها كانت تشعر به اخا وليس زوجا، يوما كانت جالسة في نادي الكلية وتقرأ المحاضرات الثلاثة التي تدور حول مرض اللوكيميا وفكرت كثيرا بنساء الجنوب وما تتعرض له الولادات الجديدة من اصابة بمرض السرطان. كانت تنزع العباءة داخل الكلية وترد تلبسها عند المغادرة للقسم الداخلي ولا يظهر منها غير العينين والانف والفم.

القدر يصنعه الانسان

لا تعرف اين ومتى قرأت جملة ما معناها، ان القناعات القابلة للتغيير هي التي تتلائم مع نغيّر الظروف وحقا يبدو الامر بالنسبة لها عسر هضم فكري، يعني عندما تقتنع بان لون الليل اسود خاصة في مدن الجنوب حيث النجوم والقمر يمكن رؤيتهما بشكل جلي وجميل ولكن على شاشة التلفاز يظهر الليل في باريس لونه مشعا ببياض الانوار الكاشفة، فهل تتغير قناعتها بلون الليل ؟ ولكن البعض ربما تتغير ظروفه او يبتغي شيئا اخر من ظروف ملائمة لمصلحته فتتغير قناعاته.. تحدث الكثير من الاشياء في عالم اليوم دون ان تجد لها تفسيرا ربما لانها تختلف عن البيئة التي ولدت وترعرت فيها وكانت تتفاجأ كل يوم بامر يختلف عما تعودت ونشأت عليه، كانت توعز ذلك الى الوسط الاجتماعي الذي عاشت فيه وخاصة التقاليد العشائرية وكانت ايضا تتأرجح بين ما انغرس في روحها من موانع وهذا الانفتاح رغم محدوديته بالنسبة لها.

كانت حنان لا تقتنع بالقدر ليس لانها طالبة علم بقدر قناعتها ان القدر يصنعه الانسان نفسه.. كما قد تبدو بعض الامور الحياتية ذات طابع تلقائي ولكنها في الحقيقة غير ذلك، حيث تتدخل في تكوينها عوامل عديدة منها طريقة التفكير والاخلاق السائدة فتجعل منها قانونا لا يمكن المساس بأي من فقرات تكوينه ومن ثم يطلقون عليها اسم الاعراف والتقاليد، بالطبع ليس جميع هذه الاعراف والتقاليد سيئة بل هناك منها ما يجعل المرء ان يسمو باخلاقه للسماء كالكرم والنخوة. كانت تشتاق لبغداد كثيرا حين تقضي  الاجازات في مدينتها الجنوبية فأي سر ببغداد هذه ؟ لماذا يحبها الناس كل هذا الحب ؟ هل هو سحرها الخالد منذ وطأتها قدم الانسان ام هو النهر الذي يقسمها الى نصفين مختلفين في كل شيء سوى في حبهما لبغداد.. حفظت قصيدة (يا دجلة الخير) كاملة حين قدمت الى بغداد وحقا دجلة ام بغداد فكانت تراها صباحا تحتضن بغداد بحنان ام وربما تبكي على دماء ابنائها التي تسفك بالمجان في اغلب الصباحات.. حنان الفتاة التي ولدت ونشأت في مدينة جنوبية صغيرة لم تتصور كما تروي في مذكراتها، انها ستعشق بغداد، حين كانت تعبر جسر ديالى كانت تتورد وجنتاها وكانت تخشى ان يفضحها فرحها لا سيما ان ابن عمها يعرف بما تحمل في قلبها من شوق لزميلها في الكلية والذي بعد احداث داعش قدم وعائلته اللجوء الى فرنسا.. يوم علمت بذلك  تحجرت دمعتها على رمش عينها.. وينهي المذكرات بربع حجاية، من نقمة المطر التي  تغرق البيوت وتسد الشوارع الى الناس التي لا ترغب ان ترى طيف مو زين لان حياتهم كلشي زين ما بيها والفرحة اللي ما تمت وسنة الطاعون ويختم لا اتكول سمسم الا تلهم.

عرض مقالات: